لن أطيل الكلام كعادتي؛ اذ لم يتبقَّ شيء يذكر من الحياة للتحدّث عنه إذ أنها مسألة وقت لا إلّا قبل أن تتلاشى عظامنا في مستنقعات اللاعودة والظلمات الباردة. وفي هذه الأوقات الحالكة من الصعب التفكير بغير الاستمرارية الغرائزية والتي يقابلها ترف أشباه بشر لا يأبهون سوى بفرد موائدهم أمام أعين من لا يمتلكون قوت يومهم. أجهل سعر صرف الدولار اليوم - الذي لن يكون أفضل من اليوم الذي سبقه - وأجهل كذلك ما الذي يجعل الإنسان قذراً إلى حدٍّ يدفع به بعرض بما تمضغه أسنانه؛ وتبصقه معدته في شاشات من لم يعودوا يمتلكون حتى القدرة على رؤيتها؛ إلى حدٍّ يجعله نظير قوّاد يبيع نفسه لعلف الآلة.
نحن في بلاد التباهي حتى على حساب مشاعر الآخرين وقدراتهم؛ في بلاد المقتدر والأكثر قدرة على التماشي مع حليٍّ وبذخ هذه العصر الاستهلاكي الذي يقيّم فيه الإنسان على حسب ما يملك لا ما يعطي. أزمة أم لا.. غلاء أم لا ..!! المهم هو التغنّي دائماً وأبداً بأسلوب العيش الأميركي والتقاط الصور في معابده الشرائية المحلية: مبتسمين، مقهقهين، مزيّفين.
العيش ههنا هو الشعور بالطبقية والعوز على كلّ مفترق طريق، هو أن تبصر في الشارع نفسه أناساً تذرف المال دماً لأجل حفل زفاف؛ وفي المقلب الآخر طفلاً يجوب الطرقات بمعدة خاوية، حافي القدمين وهو يغنّي بصوت صارخ إحدى الأغاني الشعبية، كي تلتقطه وبسخرية الهواتف الغبيّة قبل أن يضمحل إلى مصيره المجهول، هو البحث عن الهرب أين ما كان، وفي كلّ ثانيةٍ وتثاؤبٍ عند الاستيقاظ، تنكسر المشاعر، ماذا .. أهو الخجل والفخر في آن ..!!؟
المسألة تتخطّى الألاعيب السياسية والضغوطات الاقتصادية؛ والكلام الممل ذاك المتناقل في كلّ الأفواه وعلى كلّ لسان. المسألة هي إذعان أعمى للواقع وتمسّك بال "انا" على حساب الجماعة؛ المسألة مسألة اغتيال للإنسانية يوافق عليه الجميع؛ يطأطئ له؛ ويقدّم عليه يومياً كلّ من يرى في الوضع الحالي مادة سخرية؛ أو أداة انتفاع.
سلطة قمعية .. شعب ناكث .. حاجة مغتالة.
ما الذي بقي من الحياة يا "ديدورو"؟