‎غرفة إنعاش، في بيروت

 

‎كنّا ندّخر غضبنا ونتحيّن الفرصة لإطلاقه، كانت الأشهر والأيام تتوالى والأخبار التي نسمعها في كل يوم تُشعل فتيلًا في أحشائنا يوما بعد يوم، فجاءَ يوم الخميس حاملاً معه رياحاً ناشطة وعواصف ثوريّة الأمطار، شعبية المظهر عفوية الإطلاق.


‎كان يوماً عادياً، كنا نتشارك أخبار دعوة للإعتصام يوم الاثنين ونتمحّص الدُّعاة، كانت الريبة دائما صديقة الدعوات للتظاهر.. ثمَّ جاء الفرج، سُرِّب خبر الضريبة على الـ "واتساب"، وكالبارود اشتعلت أجسادنا غضباً، وكأنها فرصة في الدقيقة الـ 90 وعلى كل المجموعات على التطبيق نفسه الذي قرروا فرض الضريبة عليه، قرّرتُ النزول الى الشارع يومها ولوْ وحيدًا، وأرسلْت دعوة للتظاهر عند السادسة من مساء يومها.. ضحك بعضهم، واستهزأ آخرون فيما وَعد قلّة قليلة بأنهم سيكونون على الموعد.
‎أحضرنا كثيراً من الأوراق الكبيرة الحجم والأقلام، فمطالبنا كثيرة ونداءاتنا لا تكفيها بضعة أسطر وأغاني. والحق يُقال، لم يكن ببالنا صورة لتلك الليلة سوى تحرك خجول لن يزيد عن بضعة أشخاص يتحركون بجنون في ساحة كبيرة، وسيعودون الى منازلهم مع انقضاء ليلٍ مُحبط مرّةً جديدة.
‎حلّت الساعة الخامسة وبدأنا - كالعادة - بالتجمّع قرب تمثال رياض الصلح وبدأ كل منّا بنشر فيديو تحريضي، وبدا الفايسبوك في ساعتها، ساحة ثورية لخطابات تغييرية وباتجاه واحد، لا اعتراض ولا استهجان، ربّما كانت هناك بعض الأصوات المثقلة باليأس، لكنها كانت حاسدة لكثرة الأمل في وجوهنا الشاحبة.
كنا بالعشرات، نقفز من مفترق الى آخر، نقطع الطريق ونرجو المارّين بسيارتهم ركنها والنزول الى ساحة الـ "لا " لو لمرّة، لكنها بمعظمها كانت عربات فخمة، مفعمة بالسواد والأرقام المميزة، ولاقت غضبنا بالاستهتار والتعالي.. زاد عددنا وأصبح قطع الطريق الى الساحة أمرا مفروغاً منه، وتمّ ..
‎انتقلنا بعدها الى الجسر الأشهر منذ ١٧ تشرين: جسر فؤاد شهاب او ما عُرف بالرينغ، قطعنا الطريق العريض وأجبرنا الكثيرين على المشاركة بعد عجزهم عن المضيّ قدماً او حتى الرجوع.. الأعداد تزداد دون ردّة فعل منّا على ذلك سوى بكثير من النشوة والصراخ.. كان حلمًا يزداد واقعية مع كل خطوة نمشيها الى نقطة أخرى.. الى الصيفي، حيث التحقت بنا مجموعات كبيرة لم نفهم من أين جاءت! ربّما لبّوا الدعوات الافتراضية وأطلقوا العنان لغضبهم، لست أدري ولم نُرد ذلك، تبًّا لكل الحسابات حينها، لنمشي بعد.. منها الى الحمرا، حيث التقينا على طريقنا برصاص بلطجيّ من كلاب المسؤولين، خاف من الجموع السائرة باتجاه موكب معلّمه، فأطلق النار خوفاً لا تخويفاً، فكانت لحظة هستيرية اختلطت فيها مشاعر الخوف بالانتقام، بالكثير من الغلّ تجاه من حاول أسر رغبة الناس برصاص بارد.. كانت نقطة تحوّل بمسار ليلة ستُنير طريقاً طويلاً بعد ذلك، فرغم مغادرة البعض خوفا من الحادثة، لاقتنا مسيرة أخرى بعد قليل من طريق آخر، كان لقاءً فيه القليل من الحميمية! كنّا على طريق العودة من "مسرق" لبنان حين التقينا بسيْلٍ من الناس يحملون هواتفهم المضاءة لنقل الصورة الى الهانئين في بيوتهم. كانت لحظةً تاريخيةً، كنا نبحث عن بعضنا، تلك الثلّة التي نزلت في البداية ولم ترفع أوراقها حتى، بل تاهت بين مشاعرها الجيّاشة وطيف الأمل التغييري الذي لاحَ مباغتًا.
‎من ذاك الشارع المحاذي ل ستاركو، عودة الى الساحة الأوسع، مقابل السراي الحكومي المفعم بالحيوية والكثير من الأعلام والإضاءة، حناجر تصدح بالشعارات العالية السقف، الشعب يريد اسقاط النظام.. مع هذا الشعار، كانت تسقط معه ذرات من الخوف، واليأس والإحباط، مع صرخاتهم، كنّا نحييّ أملاً مدفوناً منذ زمن.
‎أكثر ما فاجأنا ليلتها، كان وصول العائلات، أطفالاً وكباراً وصغاراً، هؤلاء يحملون طعاماً وآخرون يحملون صناديق المياه، انهم مصرّون على اكمال الطريق حيث تأخذها رياح التغيير.. وأجمل ما كان فيها، أنّا كنّا نلتقي بأناس ليسوا مسجّلين في دوائر نفوس ذاكرتنا، لكننا نعرفهم، نشترك معهم بالألم، والحقد الطبقي، والكثير من الغضب ونوايا الانتقام ممّن كان السبب بلقائنا في هذه الساحة
كالعادة، تستنفر السلطة حرّاسها، ويقف بيننا وبين السراي الحكومي، درعاً بشرياً من قوى الأمن والمكافحة، ويُقابلون بخليط من الأداء البشريّ
منّا من اشتبك معهم، ومنّا من تحدث إليهم لائمًا، وآخرون آثروا تلقينهم دروسًا في كيفيّة التهرّب من أوامرهم سرّا ان شعر سيّدهم بالخوف ممّا قد تؤول اليه الأمور.
‎الساحة امتلأت، الأغاني والهتافات ملؤها الغضب، والشتم والتحريض تزيّن صدى سماء بيروت: من السراي الى الصيفي، صوتٌ واحد، ونيّة واحدة، لا يمكنكم أن تتجاهلونا، جئنا من كل بيت، من وراء كل خطوط التماس التي زرعتوها، والتقينا هنا، نريد التغيير.. لم يكن الشعور بالتعب جائزًا، فالمشوار لا زال في أولّه، لكنه ما ان داهم بعض المتعبين في أدراج الصباح، وعلى غفلة، شعر سيّد الدرع الأمني بالخوف، وبكثير من الخبث والجبن، هاجمت القوى الحارسة للسلطة، أرتال البشر الغاضبين، وعاثت فيهم ضربًا وخنقًا بالمسيّل وتعنيفا واعتقالات، لقد خافوا من أن يطلع الفجر على هذه الجماهير، وترى كل شيء في وضح النهار.. غادرنا الساحة، وعيننا على فجر اليوم التالي، سنعود، سنعود على نور، وسنكمل هذا الطريق، سنعود على نور، سنثور.. وعُدْنا ووعدُنا لهذه الليلة، اننا ماضون الى الأمام، لتحقيق حلم ليلة ١٧ تشرين.
* ناشط سياسي، مجموعة " شباب المصرف"