لكن في الحقيقة، هناك إحتلال من نوع آخر لا تستخدم فيه جيوش من العسكر بل قوّةً من المال لمجموعة من المصارف يمتلكها أصحاب الرساميل الكبرى يجمعهم نظام إقتصادي حرّ يقوم على عقيدة الرأسماليّة المتوحّشة التي مكيجها منّظروها الغربيّون بالنيو – الليبراليّة.
في عام 1993 وضع الرئيس الشهيد رفيق الحريري المرشد الروحي لحزب (جمعية) المصارف اللبنانيّة الذي تظلّل فيما بعد خلف حزب المستقبل الذي أسّسه، خطّة ماليّة بعنوان الإستدانة من أجل إعادة إعمار بيروت بعد إنتهاء الحرب اللبنانية بعد الإتفاق بين القوى الميليشياوية في مدينة الطائف من المملكة العربية السعوديّة، والذي أسس الجمهورية اللبنانيّة الثانية بناء على دستور سمي باسم الطائف.
حزب المستقبل كان الواجهة السياسية لحزب (جمعية) المصارف اللبنانية التي تماهت مع الرؤية الإقتصادية للرئيس الحريري والتي تقوم على الإقتصاد الريعي على حساب تدمير الإقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي. شكّل هذا الحزب خط الدفاع الأول عن المصارف اللبنانية في أطماعها وجشعها من خلال تحقيق الربح غير المشروع على حساب استنزاف موارد الدولة العامة ومداخيل المواطنين اللبنانيين الذين أصبحوا في حالة رهن لكلّ ما يملكونه مقابل قروض المصارف التي وضعت يدها على رواتبهم كضمان استناداً لقرار حكومة الرئيس الحريري بإلزامية توطين الدخل في القطاع العام.
من أجل تثبيت حكم السلطة التنفيذية للرئيس الحريري والسيطرة على كلّ مؤسسات الدولة اللبنانية وخلق استقرار مالي وهمي تولّى وزارة المالية شخصياً لتأمين الغطاء السياسي لقراراتها بالنسبة للمالية العامة والموازانات السنوية التي تشرّع كقانون في المجلس النيابي حيث كانت تسهّل عملية إقرارها سريعاً بكلمة واحدة " صُدّق " من رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري بعد قيام الرئيس الحريري على إغراء الأحزاب السياسية بتمثيلها في الحكومة حيث كانت تصوّت على قانون الموازنة دون دراسته وتمحيصه بنداً بندا.. من خلال كتلها النيابية.
حرص الرئيس الحريري على أن تنفّذ خطة الإستدانة وإحكام السيطرة المالية لصالح سلطة حزب ( جمعية ) المصارف اللبنانيّة بدّقة شديدة، فابتدع إضافة إلى رئاسته للحكومة ووزارة المالية وزارة ظلّ له هي وزارة دولة للشؤون المالية التي أوكل تطبيق وتنفيذ الخطّة الى مساعده الخاص ومستشاره المالي الوزير فؤاد السنيورة الذي أصبح فيما بعد رئيساً للحكومة كوريث لنهج السياسة الحريرية المالية التي حافظ عليها ودافع عنها بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005م، وثابر على تثبيت واستمرارية هذه السياسة لا بل ازداد مغالاةً في الحفاظ عليها الرئيس سعد رفيق الحريري لغاية عام 2019م الى حدود أنه أفلس البلد في 17 تشرين أول من نفس العام.
وفقاً لخطة الرئيس رفيق الحريري على مدى 12 عاماً منذ تولّيه السلطة التنفيذية حتى تاريخ استشهاده، ومن تسلم من بعده رئاسة الحكومة السيد السنيورة وابنه السيد سعد، أن السياسة المالية ترتكز في إحكام الطوق على المالية العامة للدولة بحصر مواردها عبر الإستدانة من القطاع المصرفي المحلي الذي بلغ 50 مصرفا، فقط 10 منها تستحوذ على أكثر من 82 % من مجمل القطاع المصرفي وتوظيفاته على شكل دين للحكومة والتي بلغت 31.9 مليار دولار ( 18.4 مليار دولار بالليرة اللبنانية كسندات خزينة و 13.5 مليار دولار بالدولار الأميركي كسندات يوروبوند ) ومن الخارج على شكل قروض صادرة عن المؤتمرات الدولية لدعم لبنان كمؤتمر باريس – 1و2 و3 ومؤتمر روما ومؤتمر سيدر في فرنسا في عام 2018 .
أوصلت السياسة المالية وفقاً للنهج الإقتصادي الذي أرساه الرئيس رفيق الحريري الى أن أصبح العجز الحكومي لغاية عام 2005م يبلغ 22 مليار دولار وفق تقرير البنك الدولي ومن ثم ارتفع بعد استشهاده على عهد حكومات الرؤساء فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام وسعد الحريري ( نادي رؤساء نهج السياسة الحريرية المالية ) في عام 2017م الى 79.5 مليار دولار ثم زاد ارتفاعاً لغاية أيلول من عام 2020 الى 94.8 مليار دولار ( 40 % منه قروض للمصارف التجارية و 35 % منه قروض لمصرف لبنان و 9 % المؤسسات العامة و 16 % قروض للدائنين الرسميين الأجانب ).
استدعت السياسة الحريرية المالية إحتلالاً مالياً للدولة من قبل حزب (جمعية) المصارف اللبنانية منذ عام 1993م بحسب سيطرتها على نسبة الدين الحكومي وهي 40 %، هذا الإحتلال حقق للمصارف أرباحاً لغاية عام 2017م بحدود 50 مليار دولار بحسب متوسطات الفوائد مع الإشارة هنا أن تعاميم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الراعي المالي للسياسة الحريرية الإقتصادية كانت تحدّد فوائد على سندات الخزينة (7 % و9 %) تفوق المعدلات العالمية بهدف تحقيق الربح غير المشروع لأصحاب المصارف اللبنانية.
في عام 2000م زال الإحتلال العسكري الإسرائيلي عن لبنان وفي عام 2005 انسحب الوجود العسكري السوري منه، فمتى ينتهي زمن إحتلال حزب (جمعية) المصارف اللبنانية الذي أدّى إلى إفلاس لبنان ونهب ودائع الناس؟ ... الجواب هنا مرتبط بزمن إنتهاء السياسة الحريرية فهل نذهب إلى الجمهورية اللبنانية الثالثة ...!!!
*كاتب سياسي واقتصادي