السودان في معادلة القرن الافريقي الجديدة

تشهد السودان منذ عام 2023 حربًا أهلية مدمّرة بين "الجيش" و"قوات الدعم السريع"، حوّلت البلاد إلى ساحة صراع دموي تتقاطع فيها المصالح الداخلية مع التدخلات الإقليمية والدولية.
فبعد سنوات من الاضطرابات السياسية، انفجر الصراع بين جناحي السلطة العسكرية ليقود البلاد نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة، تهدد بتقسيمها وتفاقم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، وسط عجز دولي عن وقف النزيف المستمر.

من أين بدأ الصراع؟
اندلع الصراع المسلح بين "الجيش السوداني" و"قوات الدعم السريع" في 15 نيسان 2023، متسببًا في موجات عنف واسعة تهدد وحدة البلاد، واكتسبت المواجهات طابعًا قبليًا وعرقيًا.
بدأت العلاقة بين الطرفين بالتصدع منذ الانقلاب العسكري في تشرين الأول 2021، الذي أطاح بالحكومة المدنية وعرقل مسار الانتقال الديمقراطي بعد سقوط نظام عمر البشير في إنتفاضة عام 2019 وقد شارك فيها كلٌّ من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، اللذان كانا في صفٍ واحد قبل أن تنشق الأخيرة عن الجيش.
مع تصاعد الخلافات، ازداد التوتر بسبب الاتفاق الإطاري المدعوم دوليًا الذي كان يهدف إلى إطلاق مرحلة انتقالية جديدة تعيد السلطة إلى المدنيين. غير أن تنفيذ هذا الاتفاق اصطدم بخلافات حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش وتحديد هيكل القيادة والإشراف المدني على القوات المسلحة.
كما تنافس الطرفان على مصالح اقتصادية ضخمة تشمل شركات تجارية ومشاريع استراتيجية، في بلد لطالما عانى من تركز السلطة والثروة في المركزعلى حساب الأطراف، وهو ما استخدمته قوات الدعم السريع ذريعة لتبرير قتالها.
تدور الحرب حالياً بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتي".
راكم حميدتي ثروة كبيرة من تجارة الذهب، مستفيدًا من نفوذ عائلته في إقليم دارفور، حيث تأسست قواته من ميليشيات قاتلت إلى جانب نظام البشير في حرب دارفور منذ عام 2003. ويُستخدم الذهب اليوم كمورد أساسي لتمويل المجهود الحربي للطرفين، عبر شبكات تهريب واسعة تتورط فيها جهات إقليمية.
رغم تفوق الجيش في البداية بفضل قدراته الجوية، تمكنت قوات الدعم السريع من توسيع نفوذها، فسيطرت بنهاية عام 2023 على إقليم دارفور وولاية الجزيرة، ثم تقدمت نحو ولايات سنار والنيل الأبيض والقضارف.
وفي 26 تشرين الأول 2025، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر بعد حصار دام نحو 18 شهراً، وبسطت بذلك نفوذها على الولايات الخمس في إقليم دارفور، الذي يشكّل نحو ثلث مساحة السودان.

من هم قوات الدعم السريع؟
تُعدّ "قوات الدعم السريع" تشكيلًا عسكريًا نشأ من ميليشيا "الجنجويد" التي اعترفت بها الدولة رسميًا عام 2013 بمرسوم من الرئيس عمر البشير، وعُيّن محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائدًا لها. أُوكلت إليها مهام مكافحة التمرد في دارفور، وحراسة الحدود، ومواجهة التهريب.
في عام 2017، أقرّ البرلمان قانونًا جعلها قوة أمنية مستقلة تتبع شكليًا للقوات المسلحة، وشاركت في عدة عمليات داخلية وخارجية، منها حرب اليمن، كما دعمت الثورة التي أطاحت بالبشير عام 2019.
ظهرت هذه الميليشيات في دارفور عام 2003 وتعود جذورها إلى قبائل عربية، ويُنسب تأسيس الجنجويد إلى "موسى هلال"، زعيم عشيرة المحاميد التي تنحدر من قبيلة "الزريقات" العربية. وهو ابن عم "حميدتي". وقد اتُهمت بارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين، ما دفع مجلس الأمن للمطالبة بنزع سلاحها وملاحقة قادتها.
وبعد انشقاق حميدتي عن هلال عام 2007، أعادت حكومة البشير دمج قواته ومنحته رتبة عميد، ثم حوّلها البشير لاحقًا إلى "قوات الدعم السريع" التابعة مباشرة للرئاسة. وفي 2019، عُدّل قانونها لتصبح قوة شبه مستقلة عن الجيش.

كيف تستغل القوى الدولية والاقليمية الصراع؟
تحوّل الصراع السوداني إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي تستغلها قوى خارجية لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية على حساب استقرار البلاد.
ويُعدّ الذهب في مقدمة الثروات الإقتصادية ، إذ يُعتبر أحد أهم صادرات البلاد ومصدرًا أساسيًا للعملات الأجنبية منذ اكتشافه على نطاق واسع في مطلع الألفية الجديدة، خصوصًا في ولايات دارفور والنيل الأزرق وشمال كردفان.
فقد سعت الإمارات إلى توسيع نفوذها عبر دعم قوات الدعم السريع مقابل امتيازات في مجالات الذهب والموانئ والبنية التحتية، وتم اتهام قوات الدعم السريع بعد سيطرتها على منجم الذهب في دارفور بتهريبه الى دول مثل الامارات.
أما روسيا، فقد عززت وجودها من خلال عقود تعدين الذهب لتأمين موارد تمويلية وسياسية خارج الرقابة الدولية.
ومصر، تركز على حماية أمنها الحدودي وضمان حصتها من مياه النيل، لذلك تميل إلى دعم بقاء السودان موحدًا ومستقرًا.
في المقابل، استغلت تركيا الصراع عبر صفقات الأسلحة والطائرات المسيّرة مقابل فرص استثمارية في المرافئ والمشاريع الاقتصادية، في حين حاولت السعودية الظهور كوسيط، لكن التنافس الخليجي بينها وبين الإمارات انعكس في سياسات متباينة داخل السودان.
وتدور المصالح الاقتصادية المحرّكة لهذا التدخل حول السيطرة على الموارد الطبيعية، ولا سيما الذهب، والتحكم بالموانئ وطرق التجارة في بورتسودان -وهي مدينة ساحلية تقع شرقي السودان على ساحل البحر الأحمر-، إضافة إلى مكاسب العقود العسكرية وتأمين النفوذ في موقع السودان الاستراتيجي كبوابة للقرن الإفريقي والساحل.

الصراع السوداني كفرصة استراتيجية للعدو الإسرائيلي
يعتبر العدو الاسرائيلي أحد أبرز المستفيدين من حالة التفتّت التي يعيشها السودان حالياً، إذ إنّ تطبيع العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب منحها مفاتيح استراتيجية جديدة مثل مسار جوي أقصر من تل أبيب إلى شرق أفريقيا، وصول محتمل إلى ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر، وتوسعة حضورها في القارة الأفريقية.
عرضت إسرائيل تقديم مساعدات تقنية وزراعية للسودان ضمن عملية التطبيع، ما يمنحها أوراق نفوذ اقتصادية وسياسية في الدولة الإفريقية، ويمنحها بدوره موطئ قدم في شرق أفريقيا وغرب البحر الأحمر.
فلقد استفاد العدو من تقسيم السودان من خلال تقليص قدرة الاخيرة على لعب دور محوري إقليمي، فتح منافذ بحرية وجوية إسرائيلية جديدة عبر البحر الأحمر، وتعزيز تحالفاتها في أفريقيا ضد النفوذ المضاد ل"إسرائيل".
يسعى العدو الاسرائيلي إلى استثمار الصراع ضمن مشروع أوسع لبسط نفوذه على ممرات البحر الأحمر، تحت ذريعة “مكافحة تهريب الأسلحة الإيرانية” إلى غزة واليمن.
منذ توقيع السودان على “اتفاقات أبراهام” عام 2020، عززت تل أبيب حضورها السياسي والأمني في الخرطوم ومحيطها، إدراكاً منها لأهمية السودان الجيوسياسية.
فبالنسبة للعدو، لا يُعدّ السودان دولة هامشية، بل بوابة نحو القارة الأفريقية وركيزة استراتيجية على البحر الأحمر، بما يمكّنها من تأمين أحد أهم الممرات البحرية بين قناة السويس ومضيق باب المندب.
أبرزت دراسة نُشرت عام 2024 في مجلة جيش الاحتلال الاسرائيلي للمقدم غال عسّيل أن “العلاقات مع السودان تمثل مصلحة استراتيجية عليا”، إذ تتيح ل"إسرائيل" مراقبة طرق تهريب الأسلحة الإيرانية وبناء شبكات استخباراتية في جنوب البحر الأحمر.
وقد ظهرت مؤشرات هذا التوجه عملياً في أيار 2025، حين بثّت القناة 14 الإسرائيلية تقريراً حول “التوسع الإيراني في أفريقيا”، صنّفت فيه السودان وليبيا كمحطات لوجستية في شبكة تهريب الأسلحة إلى غزة. وأشار التقرير إلى استخدام الأراضي السودانية كـ“طريق بري بديل” لتمرير الصواريخ والطائرات المسيّرة عبر الحدود مع مصر.
وفي حزيران 2025، كشفت رويترز عن تسريبات دبلوماسية تفيد بأن إسرائيل قدّمت “دعماً تقنياً محدوداً” للجيش السوداني في مجالي الاتصالات والمراقبة الجوية، بالتنسيق مع الولايات المتحدة والإمارات.
وفي المقابل، رأت صحيفة هآرتس أن تل أبيب تستغل الحرب لتبرير توسيع وجودها العسكري في البحر الأحمر تحت شعار “حماية الملاحة من تهديدات الحوثيين”، مؤكدة أن الأزمة السودانية منحت "إسرائيل" فرصة لتوثيق تحالفاتها مع إثيوبيا وإريتريا ضمن خطة لاحتواء النفوذ الإيراني الممتد من طهران إلى صنعاء والخرطوم.
يرتبط تصاعد النشاط الإسرائيلي في السودان ارتباطاً وثيقاً بمخاوفها من اليمن. فمنذ سيطرة حركة “أنصار الله” على الساحل الغربي لليمن، تبدّل ميزان القوى في البحر الأحمر جذرياً.
وفق معهد دراسات "الأمن القومي الإسرائيلي" (INSS)، فإن سيطرة الحوثيين على مضيق باب المندب منذ عام 2021 “أعادت تعريف التهديد البحري لإسرائيل”، إذ أصبحت الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية قادرة على استهداف ميناء إيلات وتهديد خطوط الملاحة إلى قناة السويس.
نتيجة لذلك، بدأت إسرائيل تتعامل مع البحر الأحمر كساحة أمن قومي رئيسية تلي البحر المتوسط مباشرة، لتتحول الأراضي السودانية إلى “منطقة عازلة متقدمة” في استراتيجيتها الجديدة.

الخاتمة
يختزل المشهد السوداني اليوم صراعًا أعمق من مجرد نزاع داخلي، فهو مرآة لتنافس إقليمي ودولي على الموارد والموقع الاستراتيجي للبلاد. فبينما يتآكل الكيان السوداني من الداخل، تستفيد قوى خارجية من حالة الفوضى لترسيخ نفوذها في القرن الأفريقي. هكذا يتحول السودان من فاعلٍ إقليمي إلى ورقة في لعبة توازنات كبرى، فيما يظل مستقبل الدولة مرهونًا بقدرتها على تجاوز الانقسام الداخلي ووقف استباحة سيادتها من الخارج.

 

  • العدد رقم: 430
`


ميرا عيسى