المغزى الطبقي للصراع بشأن الموازنة

ها قد مرّ حوالي نصف العام 2019، وموازنة هذه السنة لم تُنجَز بعد. يُظهر هذا البطء والإطالة في إقرار الحكومة مشروع الموازنة ثم تحويله إلى المجلس النيابي، مدى الاختلافات و"الشدشدة بين الأطراف السلطوية، ليضمنَ كل طرفٍ منها مصلحته الفئوية، حتى إذا ما تمّ ذلك، يصلون إلى التوافق عليها. والسبب الأساسي الآخر لهذا التأخير، هو حجم الأزمة والعجز والمديونية، والأسلوب الذي دأبت الأطراف السلطوية على استخدامه، بتضخيم الأخطار والتهويل على الناس بالأعظم، عملاً بالمثل الشعبي "التخويف بالموت للقبول بالمرض" ولإعطاء إقرار موازنة طابع "الإنجاز".

أما في المضمون، فرغم أن الموازنة ما تزال معروضة للنقاش في مجلس النواب، فإن طبيعة الأطراف السلطوية وسياساتها تبيّن جوهرها الطبقي، الذي كانت تلجأ دائماً إلى طمسه بتسعير العصبيات والمناخ الطائفي. بينما لم تنجح هذه المرّة في تغطية انحيازها وتواطئها مع القلة الضئيلة المكوّنة من أرباب المصارف والمال والشركات العقارية، وكبار سارقي المال العام، ضدّ مصالح الأكثرية الساحقة من شعبنا، عمّالاً ومزارعين وشباب وذوي الدخل المحدود وفئات اجتماعية وسطى، وتحميلهم عبء أزمة لم يتسبّبوا بها، بل هم ضحاياها. ولولا التحرك الجماهيري الكبير الذي شمل جميع مجالات القطاع العام ومعها مصالح مستقلة، من موظفين إلى المعلمين والمتقاعدين، وأساتذة وطلاب الجامعة اللبنانية، والضمان الإجتماعي، وصولا إلى القضاء،... إلخ. لكانت يدُ الأطراف السلطوية طليقةً للتمادي بالمزيد من التجنّي على مصالح أكثرية اللبنانيين. فالميزة الأساسية لمشروع الموازنة هو افتقاده الحدّ الأدنى من المعالجة الحقيقية والعادلة للأزمة بين الطبقات والفئات الاجتماعية. فالنظام ال ضرائبي القائم والجائر، لم يُستبدل باعتماد مبدأ الضريبة التصاعدية على الأرباح والمداخيل العالية. ولم يقترب هذا المشروع من رؤية اقتصادية اجتماعية ونظرة مستقبلية، للخروج من الواقع المأزوم. ولا يكفي القول بإدخال بعض تعديلات في موازنة 2020 ليطمئنّ الناس. لقد بقي كل شيء تقريباً في حدوده الطبقية لسياسات السلطة. ويشكُّ كثيرون في تحقيق الفارق في نسبة تخفيف العجز المذكور، من 11.5% إلى 7.59%، وتحسين النمو العام الحالي بنسبة 4%، في ظلّ غياب المحاسبة لأي من الفاسدين الكبار.
أما الجديد الفعلي وحتى النوعي، هو التدخل الجماهيري بشأن هذه الموازنة. فقد شكل التحرك الشعبي الواسع، ردّاً يحمل طابعاً اجتماعياً-طبقياً، لم يسبق أن كان بهذا الحجم، وبهذا الوضوح. ولا يقلل من أهميته ومن مغزاه، أن يكون التحرك في مجالات متنوعة... فقد جرى مُتزامناً في الشارع، وموجهاً ضد السلطة وسياساتها الطبقية، وتميّز بلهجة عالية للمتظاهرين والمعتصمين. ما يُشير إلى مدى النقمة على الطبقة السلطوية وفسادها وعجزها وعدم الثقة بها. لم يكُن تحرّكاً لفئة بعينها ولم يأتِ معزولاً عن مسار الحراك الشعبي الذي مارس الحزب الشيوعي دوراً طليعيّاً فيه، بدءاً من حراك إسقاط النظام الطائفي، إلى التحرك الاحتجاجي حيال مشكلة النفايات، إلى دور هيئة التنسيق النقابية وتحركاتها الجماهيرية في الشارع طيلة سنوات، وانتزاع إقرار سلسلة الرتب والرواتب وإلى التظاهرات الأخيرة.. فقد شكّل ذلك عاملاً تعبوياً وتراكماً في الوعي الاجتماعي يعطي النضال الشعبي زخماً. وأن الظاهرة المهمة في اتساع المشاركة في هذه التحركات، هي تسجيل بداية انفكاك واسع عن الارتباط بالزعامات الطائفية السلطوية، والخروج عن سقف مواقفهم. وهذا الطابع المشترك لتحرك العاملين في كل قطاع، على اختلاف طوائفهم، ردّاً على المساس برواتبهم ومكتسباتهم، يؤكد ما للقضية الاجتماعية من دورٍ محوريّ في حياة الناس والبلاد، واندفاعهم إلى التحرك، وفي توحيد اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، وكعامل أساسي ايضاً لبناء وحدة حقيقية للدولة والمجتمع والوطن خلافاً لمفاعيل العامل الطائفي المناقض لذلك.
إن القضية الإجتماعية في القطاعين العام والخاص، تستدعي المزيد من الاهتمام، بتنشيط الدور العمالي والنقابي، ودور الحزب النضالي في هذا المجال، نظراً للبعد السياسي الطبقي الوطني والاجتماعي، الذي يتّخذه هذا النضال، في مواجهة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المستمرة، وسياسات الطبقة السلطوية، ومن أجل التغيير.

  • العدد رقم: 359
`


موريس نهرا