الانتفاضة ومسارها التصاعدي

58 يوماً على انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول /أكتوبر، زادُها إصرارٌ كبير من شعبٍ ضاق ذرعاً بهذه السلطة السياسية الفاسدة ونظامها الطائفي المتعفّن، لأنّه يستحق الحصول على أبسط حقوقه ألا وهي بناء دولة مدنية وطنية.

إرادة اللبنانيين ووحدتهم قابلها "تخبّط أهل السلطة" التي غرقت بتجاذبات الاشتباك السياسي المعتاد وأغرقت البلد بانهيار مالي واقتصادي من جهة، كما أغرقت المواطن من جهة ثانية بكوارث وفضائح متكرّرة لمجازر وصفقات تأهيل البنى التحتية المهترئة والمعدومة أصلاً، والتي تفاجئ، كل عام، المعنيين في وزارتي الأشغال والداخلية والبلدية، أو البلديات، أو مجلس الإنماء والإعمار، وصولاً إلى المتعهّدين، عند أول سقوط للأمطار الطبيعية المعتادة، فيتسارعون إلى قذف الاتهامات في ما بينهم ليرفع كل منهم المسؤولية عن نفسه.

تلك الانتفاضة التي عبدت بدماء ثلاثة شهداء سقطوا في شهرها الأول لأنّهم أرادوا بناء وطن. فتبعهم شهداء لقمة العيش ومنظومة الفساد في الشهر الثاني الذين لم يجدوا أمامهم سوى الانتحار عند ازدياد وجعهم لعجزهم عن تأمين لقمة خبز لأولادهم أو إيجاد فرص عمل وسداد ديونهم. إضافة إلى العديد من المحاولات لعمليات الانتحار بالحرق في ساحات الاعتصام التي تداركها وجود المنتفضين ومنعوا إتمامها. حتى أن تلك الشهادات وحالات الجوع لم تحرك السلطة، ولا حتى الجمعيات الخيرية التابعة لنساء أو أقارب وزراء ونواب، بل سارع المواطن الفقير لخلق مبادرات فردية وجمع المساعدات وتقديمها لمن هم أفقر منه تفادياً لخسارة أرواح أخرى.

"المكلف المفقود؟"
يعتمد رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري على سياسة المماطلة ولعبة الكرّ والفرّ، مدعياً الحياد واللامبالاة من جهة، ومستخدماً أساليب ضغط الشارع وشدّ العصب الطائفي والمذهبي من جهة ثانية. إذ نراه يرشّح أو يوافق على تسمية من يخلفه بصفقة مع الخليلين، ثم يوجّه له ضربة البطاقة الحمراء التي يرفعها المنتفضون في الساحات بمجرد تسريب اسم المرشح الموعود، بسبب سجله العامر بقضايا الفساد والمخالفات أو التعديات على الملك العام... فأسقط الشارع الوزير السابق محمد الصفدي منتصف الشهر الماضي، طالباً القضاء متابعة ملفه بالاعتداء على الأملاك العامة البحرية في خليج السان جورج وإقامة "الزيتونة باي". ثم تلاه سقوط الوزير السابق بهيج طبارة. ومن خارج السياق العلني، سقط السفير السابق نواف سلام وفؤاد المخزومي حتى الآن.
أما السقوط الأبرز فكان من نصيب المهندس سمير الخطيب صاحب شركة "خطيب وعلمي"، بعد ثلاثة وخمسين يوماً على الانتفاضة، وأربعين يوماً على استقالة الحريري. وهكذا انتهى فصلٌ آخر من مسرحيات الحريري، بعد تدخل السلطة الدينية عبر إبلاغ مفتي الجمهورية سمير الخطيب أن أبناء الطائفة توافقوا على تسمية الرئيس سعد الحريري لتأليف الحكومة المقبلة.
هذا السقوط، اتخذه رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون ذريعةً لإرجاء جلسة الاستشارات التي كانت مقررة في العاشر من الشهر الحالي، والتي يطالب بها الشعب اللبناني منذ ما يزيد عن الأربعين يوماً. أما أواخر الشهر الثاني للانتفاضة الشعبية، ومع تعثر تكليف سمير الخطيب، اتجهت الأنظار إلى "بيت الوسط" من خلال المؤشرات الآتية: الرسائل التي وجّهها الرئيس الحريري إلى ملوك ورؤساء للطلب إليهم تغطية فتح اعتمادات في دولهم للاستيراد إلى لبنان، إضافة إلى الإعلان عن مؤتمر الدعم الدولي للبنان الذي انعقد في باريس الأربعاء الماضي.

"أزمة الصرف الجماعي"
في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، ازدادت نسبة البطالة في لبنان، وبحسب بعض الاستطلاعات، هناك أكثر من 160.000 أجيراً وأجيرة خسروا أو هم بصدد خسارة وظائفهم بصورة مؤقتة أو دائمة خلال الشهرين الماضيين بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. إذ أن أكثر من 70 شركة تقدمت بطلبات صرف جماعي لدى وزارة العمل خلال أوائل شهر كانون الأول/ ديسمبر الحالي: من مطاعم، ومحلات تجارية، ومصارف ومؤسسات اعلامية ومستشفيات وغيرها، منها من أقفلت بالكامل ومنها من أقفلت فروعاً عدة لها وبعضها يتجه نحو الإقفال. كما عمدت معظم المؤسسات والشركات إلى حسم رواتب موظفيها بين الـ 40% إلى الـ 50 %.
يذكر، أن الخط الساخن التابع للجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين تلقى 56 شكوى متعلقة بالصرف من الخدمة في لبنان خلال آخر ثمانية أيام من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019. وقد وصل عدد المتصلين إلى 198 أجيراً مصروفاً في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ليصل إلى 493 أجيراً مصروفاً في أول خمسة أيام فقط من شهر كانون الأول/ ديسمبر الحالي. كما تلقت اللجنة خلال الأسبوعين الماضيين 205 حالات تخفيض لمعاشات العمال.

"يسقط حكم المصرف"
تضاعفت وتيرة وطريقة التحركات الاحتجاجية أكثر على المصارف في الشهر الثاني للانتفاضة، وذلك تزامناً مع بروز الأزمة المالية لدى المصارف وعدم توفر السيولة المالية وارتفاع سعر صرف الدولار...ولجوء هذه المصارف إلى احتجاز أموال الناس ورواتبهم، مخالفة قانون النقد والتسليف.
فكان التحرك الأول في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي باقتحام عدد من المصارف في بيروت وتلاوة بيان داخلها، يطالب بـ "تدفيع المصارف وكبار المودعين ثمن إنقاذ البلد من الإنهيار عبر إعادة هيكلة الدين العام أي إلغاء جزء منه - مصادرة الأرباح التي حققتها المصارف عبر الهندسات المالية - فرض ضرائب على الودائع، الفوائد، العقارات الكبيرة سيما عند بيعها أو توريثها - المحاسبة الفوريّة لمدراء المصارف وحاكميّة مصرف لبنان المستقيلة من دورها منذ 30 عاماً تجاه حماية الاقتصاد وحماية الطبقة العاملة والناس.."، بهدف "تأمين موارد مالية للدولة لاستثمارها في تقديم الخدمات للمواطنين (تغطية صحية شاملة، تأمين مسكن. إلخ)، وأيضاً من أجل الإستثمار في القطاعات الإنتاجية (صناعة، زراعة، خدمات) التي تبني اقتصاداً فعليّاً وتؤمن فرص عمل للشباب والخرّيجين".
أما "الجولة الثانية" فاتسع نطاق دائرتها على أكثر من مصرف في الخامس من الشهر الحالي وشملت عدة مناطق شهدت احتجاجات داخل المصارف وخارجها ومنها:

- صيدا: بنك لبنان والمهجر، بنك الاعتماد، بنك عودة، البنك اللبناني الفرنسي، مصرف لبنان في صيدا (حيث اعتقلت القوى الأمنية أحد المتظاهرين)، الـ FNB، الـ SGBL، الـ IBL، وبنك عودة.
- عكّار: بنك عودة.
- بعلبك: بنك بيروت والبلاد العربية والـ. BSL
- بيروت: بنك عودة (الجمّيزة)، بنك بيبلوس (الأشرفية والجمّيزة)، فرنسا بنك (الأشرفية والتباريس والصيفي)، بنك ميد (التباريس)، سارادار (الجمّيزة)، وبلوم بنك (الصيفي).
كما استهدف المنتفضون مصرف لبنان في معظم فروعه بكافة المناطق، ولا سيّما في بيروت والنبطية وصيدا، حيث تشهد الأخيرة تنفيذ اعتصامات يومية أمام المصرف المركزي وعقد لقاءات حوارية ومنها "نحنا والمصارف شو إلنا وشو علينا" مع الناشط محمد بزيع.

"يسقط معمل الموت"
أما التصعيد الأبرز الذي شهدته منطقة الإقليم، فكان بتنفيذ اعتصاماً أمام مدخل معمل سبلين للترابة بدعوة من حراك برجا احتجاجاً على تلوث المنطقة من دواخينه السامة ومن غبار الكسارات، حيث سارعت إدارة المعمل إلى استحداث بوابة حديدية ووضعت أسلاكاً شائكة، لمنع المحتجين من الاقتراب إلى حرمه.
وشهد الاعتصام هتافات تندد بجهاد العرب ووليد جنبلاط. كما رفع المعتصمونشعارات ولافتات أشارت إلى أن "التلوث تسبب بإصابة أهالي المنطقة بأمراض السرطان والربو والحساسية الخطيرة والمميتة"، "استوردوا ترابة من مصر أرخص وأجود وفكوا عن بيئتنا"، "مع كل مكب بيطلعلك محرقة مجاناً" و"اغتصبتم الطبيعة، حان وقت المحاسبة. بيكفي"...
وألقت جميلة الجنون كلمة باسم ضحايا مرضى سرطان التلوث في المنطقة، قالت فيها: "نحن محاصرون بمعامل تغتال صحتنا وصحة أولادنا، في الجية هناك معمل الكهرباء، وهنا معمل الترابة وكساراته ومقالعه ومحرقته، ونتنفس الدخان المسموم بدل الهواء النظيف، وللأسف يحوم فوق سماء الإقليم شبح الموت. والأخطر من هذا، ما تم دفنه في أرض سبلين من مطمر نفايات النورماندي". وختمت: "هذا الواقع مؤلم كثيراً، وسوف نبقى نقول حتى آخر نفس: لا لمعمل سبلين ولا للكسارات والمقالع والمحارق والمطامر، نعم للحياة".
ثم ألقى كلمة المحتجين نزيه سرور، فقال: "صباح التلوث والجرائم البيئية، صباح المرض والموت، صباح السرطان الذي أصبح ضيفاً ثقيلاً في كل بيت من بيوتنا، صباح الصفقات والحصانات السياسية، صباح البيئة التي تموت مثلنا، صباح الثورة". وتحدث عن "السموم التي يحملها الهواء"، وعن وجود "نسبة عالية ومخيفة من الموت بسبب المرض"، لافتاً إلى أن "إحصائيات وقف المدافن ببرجا تشير إلى أن نسبة كبيرة من الوفيات في المنطقة سببها مرض السرطان"، وقال: "لا للكسارات، لا للمطامر، لا لمعامل الموت، ونحذر من أية محرقة أو أي نوع من النفايات، وعندما يتخذ هذا القرار تكون عندها قد فتحت معركة واضحة وصريحة مع شعب بكامله".

ها هي انتفاضة "17 أكتوبر" تدخل شهرها الثالث دون ملل بإصرار وعزيمة من الثوار وصمودهم في مواجهة مماطلة السلطة وبلطجية أزلامها. وها هم اللبنانيون ولا سيّما المنتفضون في الساحات بانتظار الاستشارات النيابية الملزمة يوم الإثنين المقبل 16 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، أي عشية دخول انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر شهرها الثالث، ويسألون: من هو المرشح الجديد على طريق الحرق؟ أم ستكون المرة الرابعة من حصة المرشح الأبدي الرئيس سعد الحريري علّه يذوق طعم الحرق أيضاً كأسلافه؟!

  • العدد رقم: 369
`


كاترين ضاهر