رسميّاً تكمن وظيفة الصندوق في العمل على الاستقرار المالي، ومساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل. إنّما في الواقع إن الصندوق أداةٌ بيد الولايات المتحدة (ورأس المال العالمي) ليحقّق مصالحه في الدرجة الأولى ويفرض على الدول برامج ضد مصلحة الأغلبية العظمى من المواطنين أي أصحاب الدخل المتدني والمتوسط، فيؤمّن بذلك مصلحة رأس المال ويعزّز تبعية الدول إلى الغرب.
من الطبيعي إذاً أنْ تتيح سياسةُ الصندوق مراكمةَ الثروات لحفنة من الأغنياء بلا انقطاع حتى في أزمنة الأزمات.
الصندوق لا يسعى إلى حل مشكلات الدول المأزومة، بل هو يسعى إلى تمكينها (إغراقها وتكبيلها) من إستخدام قروضه لتسديد ما في ذمتها من ديون أجنبية مستحقة، أي أن يحل مكان الدائنين الأجانب، ضامناً بذلك حصولهم على رؤوس أموالهم. (1)
في هذا المقال نحاول أن نستعرض شذرات من تاريخ صندوق النقد الدولي ومن تدخلاته في بلدين، هما تشيلي وروسيا. وذلك لتمليك الجماهير المنتفضة أداة معرفية تمكّنهم من فهم سبب لجوء القلة القليلة من أصحاب رؤوس الأموال إلى هذا الخيار، وما هي السيناريوهات المتوقعة في حال لجأت السلطة اللبنانية إلى هذا الخيار.
لمحة عن تاريخ تأسيس هذا الصندوق
تأسّس صندوق النقد الدولي بعد مؤتمر بريتون وودز الذي بدأ أعماله في ١٤ تموز ١٩٤٤ بحضور وفود من ٤٤ بلد. وحول تأسيسه، يقول رئيس الوفد البريطاني الاقتصادي إلى المؤتمر جون ماينرد كينز "إن الأمر الواضح، هو أن اثنتين وعشرين دولة، من الدول المدعوة، لم تسهم بأي دور ذي بال في المؤتمر، وأنها كانت حجر عثرة لا غير... إننا هاهُنا إزاء أكبر مهزلة، حدثت في السنوات الأخيرة" (2). وهذا لأنّ مفاوضاتٍ سرية بين البيت الأبيض والحكومة البريطانية كانت قد سبقت المؤتمر بوقت طويل لوضع مجموعة من الخطط التي ينبغي على النظام النقدي العالمي الارتكاز عليها. وليس ثمّة شك أنّ هذا الصندوق ليس إلّا مؤسسة أنشأتها الولايات المتحدة الأميركية لحماية مصالحها وزيادة قوتها وهيمنتها الاقتصادية على العالم، فعلى الدول الراغبة بالحصول على العضوية في الصندوق أن تكشف عن حساباتها وذلك ليكون بالمستطاع تسليط الضوء على أوضاعها ويتعيّن على هذه الدول أن تودع لدى الصندوق كمية من الذهب، ومبلغاً من المال.
بدأ الصندوق عملياته برأسمال بلغ ٨.٨ مليار دولار منها ٢.٩ مليار دولار إسهام الولايات المتحدة. وفي العام ١٩٤٦ وقع الإختيار على البلجيكي كميل غوت الذي كان وزير مالية بلاده كأول مدير عام للصندوق، وكميل غوت كان قد أعار خلال ولايته كمية من الذهب إلى بريطانيا لمساندتها في تمويل إنفاقها الحربي كما زوّدها بالكوبالت والنحاس من مناجم الكونغو بالإضافة الى تزويده الولايات المتحدة سرّاً بمادة اليورانيوم المستخرجة من مناجم الكونغو لإكمال برنامجها النووي.
تشيلي وصندوق النقد الدولي
الخوف من نموذج إشتراكي في أميركا اللاتينية دفع بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالتعاون مع البرجوازية في تشيلي، إلى الإقدام على تمويل ودعم مباشر لانقلاب بقيادة بينوشيه على الرئيس الإشتراكي سلفادورألليندي. استقدم بينوشيه بعد إلغائه التأميمات التي قام بها سلفه، مجموعة من الاقتصاديين الذين سُميوا بصبيان شيكاغو (Chicago boys. وهم مجموعة درست على يد ميلتون فريدمان في Chicago school of economics. وكان هدفهم صياغة برنامج على قاعدة الأسس الليبرالية يفرض تقشّفاً على البلاد وسُمّي هذا البرنامج العلاج بالصدمة (shock therapy).
وضع هذا البرنامج بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وأبرز نقاطه:
1. خفض الكمية النقدية المتداولة على نحو صارم وفعال.
2. خفض الإنفاق الحكومي، تسريح أكبر عدد ممكن من الموظفين الحكوميين.
3. تنفيذ الخصخصة في القطاع الصحي والتعليمي.
4. ضرورة خفض أجور العاملين وزيادة المعدلات الضريبية من الأفراد العاملين.
5. خفض الضرائب الجمركية والضرائب المستوفاة من الشركات.
في الوقت الذي كان بينوشيه يبطش باليساريين المعارضين لهذه السياسة طُبّق هذا البرنامج، الأمر الذي رفع نسبة البطالة من ٣ في المئة عام ١٩٧٣ إلى ١٨.٧ في المئة في العام ١٩٧٥، كما بلغ التضخم في الفترة نفسها ٣٤١ في المئة كما زادت نسبة الفقر، الأمر الذي رفع معدل التفاوت الإجتماعي. وفي هذه الفترة، زاد الصندوق قيمة قروضه إلى تشيلي خمسة أضعاف.
من باع التاريخ؟
يقول أوليغ شينين الذي كان سكريتيراً للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي وعضواً في مكتبه السياسي في نص المرافعة التي ألقاها في ٨ شباط ١٩٩٤ أمام الهيئة العسكرية للمحكمة العليا في الاتحاد الروسي بعد اتهامه (زوراً) بخيانة الوطن إنّ "التخلي عن وصف النظام الاجتماعي- الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي بأنه إشتراكي ينطوي على دلالة عميقة. فمسألة تحديد طبيعة النظام الذي يعيش الشعب في ظلّه مسألة مبدئية، ولا يمكن حلها إلا من قبل الشعب كله، كما جرى في سياق استفتاء السابع عشر من آذار 1991 ". (3)
عانى الاتحاد السوفياتي في الثمانينيّات من أزمة عميقة بسبب الانحراف عن خط السير نحو الاشتراكية الذي بدأ في عهد خروتشوف وتحديداً بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي (الذي تلا وفاة ستالين) حيث نشأت وتطورت طبقة برجوازية، كان من أبرز وجوهها غورباتشوف ويلتسين. أمام هذه الأزمة فضّل غورباتشوف طلب المساعدة من بوش الأب الرئيس الأميركي بوقتها، هذا الأخير أشرك صندوق النقد الدولي في العملية وكلّف الصندوق والبنك الدولي إجراء دراسة تتناول وضع الاقتصاد السوفييتي. لم ينتظر ميشيل كامديسوس (Michel camadessus) المدير العام للصندوق وقتذاك، الذي أشرف على إدارة نادي باريس بين عامي 1976و1984 والمصرف المركزي الفرنسي لمدة ثلاث سنوات، فأرسل سريعاً إلى موسكو اقتصاديين يؤمنون بالليبرالية الاقتصادية، فكانت خلاصة ورقة الاقتصاديين واضحة جدا وهي التحوّل الجذري إلى النظام الرأسمالي وذلك بالاعتماد على برنامج العلاج بالصدمة على غرار ما حصل في تشيلي.
وفي التاسع من نيسان عام 1991، أعلن غورباتشوف تنفيذ برنامج مضاد للأزمة، فأصدر قراراً بالتخلي عن تأميم المشاريع والسماح بالملكية الخاصة من جديد والكف عن احتكار الدولة للتجارة الخارجية، بذلك يكون قد قضى على تاريخ الاتحاد السوفييتي.في الوقت عينه كان من مصلحة يلتسين المحبوب من الغرب أن يضعف خصمه غورباتشوف. في اجتماعه السنوي في بانكوك أعلن صندوق النقد الدولي أنه يصر على تسديد كل ما له من ديون في ذمة الاتحاد السوفييتي، ويتوقع أن تقوم الجمهوريات السوفييتية بتسديد هذه الديون عبر إلغاء جميع أساليب الدعم المالي، الممنوحة للصناعة وللزراعة، وعبر تقليص الأموال المخصّصة للأنشطة العسكرية. قام يلتسين وحكومته التي أصبحت برئاسة ايغور غايدار المقرّب من أفكار صبية شيكاغو، بتنفيذ إرشادات الصندوق ما أدّى إلى كارثة ضربت البلاد. في الخامس من كانون الأول 1991 استقال غورباشوف من منصبه كأمين عام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ثم تم تفكيك الاتحاد السوفييتي (ككيان سياسي) في الحادي والثلاثين من الشهر نفسه.
عن تلك الفترة يقول إرنست فولف "بين عام 1991و1994 انخفض معدل الولادات بثلاثين في المائة. وهذا لا غرو أن يتراجع عدد سكان روسيا، خلال 12 عاماً، بنحو عشرة ملايين نسمة، ليبلغ 142 مليون مواطن. أضف إلى ذلك وذاك، أن الإدمان على المسكرات والأمراض النفسية والجرائم وعدد المشرّدين، كانت جميعها، من جملة الظواهر التي انتشرت بنحو ما كانت له قرينة في سابق الزمن. كما ألغيت ضمانات الرعاية الاجتماعية، بما في ذلك رياض الأطفال والمعونات المالية المخصصة للأطفال، علماً بأن هذه المكتسبات كانت متاحة للجميع في الاتحاد السوفييتي. وعجز الكثير من الآباء والأمهات عن رعاية أطفالهم، من هنا، لا عجب أن يُكره من الفتيات على ممارسة الدعارة، وأن يختفي أثر الكثير من أبناء الشوارع في دروب وأزقة المدن الكبرى ولسنا بحاجة للاشارة، إلى أننا هاهُنا، إزاء ظواهر ما كانت معروفة بهذه الشدة ولا حتى في أبشع ظروف الحرب التي تعرّض لها الاتحاد السوفيياتي". (4)
عن الواقع اللبناني ومهام المرحلة
في ظل الأزمة المفتوحة للنظام اللبناني وتعقدها على كافة الصعد، تضغط البنية الأيديولوجية للطبقة المسيطرة لتعمم أفكارها، منها بأن الحل الوحيد أمام لبنان هي برامج هذا الصندوق أو طلب المال من الخارج. أي اصلاحات تحافظ فيها على مصالحها، بمعنى آخر: فليتحمل الشعب بطبقاته الفقيرة والمتوسطة كلفة هذا الانهيار، أما المهم هو حماية طبقة الـ1%. من هذه النقطة تنتصب أمام هذه الانتفاضة (والحركة الشعبية عامة)، وتحديدا أمام قوى البديل الجذري السياسي، عملية هي ضرورية في سيرورة تعقد الأزمة، فتقديس الشارع كما تطرحه بعض القوى (ومنها اليسارية) وتقديس ما سمي بالعفوية أصبح مهدّداً لهذه الانتفاضة، لا بل كابحاً لارتقائها إلى الهجوم على المستوى السياسي ونقل المعركة إلى المستوى السياسي عبر برنامج يأخذ بعين الاعتبار التعقد في بنية البلاد الاجتماعية وتناقضات البنية العالمية والإقليمية. إنّ هذا البرنامج يُمَلّك الفقراء والكادحين والمتضرّرين وأوسع القوى الحيّة في المجتمع أداةً تنتصر لهم في وجه هذا النموذج القائم، فلتتحمل قوى التغيير الجذري مسؤوليتها التاريخية في مجتمعها وفي هذه اللحظة التاريخية التي يمر بها الوطن والعالم.
المراجع:
(1) د عباس عدنان علي، مقدمة كتاب صندوق النقد الدولي، ص18
(2) Richard peet: unholy trinity, zed books, London 2009
(3) اوليغ شينين، من باع التاريخ، دار الطليعة الجديدة طبعة أولى 1997، ترجمة عدنان جاموس، ص21
(4) ارنست فولف، صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية، صادر عن عالم المعرفة، أبريل 2016