في السابع عشر من الشهر الماضي لم يسأل أحد في بيروت المنتفضين عن سبب "عنفهم" ، فقام المنتفضون برمي الحجارة وكأنّهم يقولون أعيدوا لنا الكرامةَ في الحجارة، نعطي لهذا الحاضر المشؤوم وطناً.العنف هو أن تُباع الأرض ويُهجّر الإنسان. العنف هو أن تُمحى معالم الإرادة الشعبيّة وكأنّها لم تكن حدثاً ولا قصة في شوارع المدن والضواحي. العنف هو أن تُهندس المدن والأنفاق والجسور والضّواحي والمخيّمات بشكلٍ لا يقدر معه العبور من لا يمتلك سيارة. العنف هو أمن الخمّارات الفاحشة على أرض هُدّمت البيوت التي كانت فيها على رؤوس أهلها. العنف هو هندسة الحركة بالخوّات في الشوارع وحدود المخيمات والجدران في وسط الساحات – العُنف فِعلُ حصارٍ مكانيّ وإرهابٍ جغرافيّ.
العنف هو أزقة طرابلس المنسيّة لشدّة الفقر فيها. العنف هو الفقر، هو انتظار آخر الشهر للحيازة على ورقة مالية تتحكّم بمصير جوعنا. العنف هو الوقوف أمام أبواب المستشفيات دون ضمانة إنسانية بتلقي العلاج. العنف هو أن يدفع المرء وقته في طوابير العار أمام المصارف منتظراً المصير الذليل – العُنفُ فِعلٌ اقتصادي.
العنف هو مناهج الغرب الرأسمالي في جامعاتنا. العنف هو سردية السلطة في كتب التاريخ بين جدران مدارسنا المتهالكة. العنف هو أن يكون الحق في المسكن والتعليم سِلعة تباع وتشترى – العُنف فعلٌ فِكري.
العنف هو الرّشاوى والطائفية التي تغتال الأمل والكرامة. العنف هو أن يخال للمدير أن بيده التحكّم بمصير فردٍ عاملٍ – العُنف هو المَجهول وسلوكٌ ومنطقٌ مؤسّسي.
العنف هو تطبيع العنصرية في اللغة. العنف هو الهجرة والتهجير هو العزل والتفرقة. العنف هو إعلام السلطة بمذيعيها وصُحُفها وتحليلاتها ودعاياتها – العُنف فِعلٌ لُغوي.
العنف في أيّ سياق هو حكر بيد الأقوى. العنف لغة البرجوازيّة والشركات والمدراء. العنف هو السّكوت والخوف والرضى والخنوع لدى المنسيّين. العنف هو أن يموت اللاجئ السوريّ في خيام البؤس، هو أن يموت اللاجئ الفلسطيني غريباً حيث خُلق – "أجنبياً في معاجم لغة الأيام. هو أن نرضى بأن نسمّي شعبنا مقاوماً رغم مشاهد انتحار عاملات المنازل وعُمّال البناء قهراً على أرضنا. العنف هو سلطة لا تضع للكرامة مقعداً تمثيليّاً في روحيّة نصّها وقرارها. العنف هو احتكار الأفعال ومصادرة اللّغة – العُنفُ هو البنيانُ الطبقي وثقافة السكوت واللامبالاة.
أمّا أجهزة السّلطة الأمنية والميليشيات الطائفيّة فهذه بانتشارها بوقوفها بحركتها الثقيلة بمجرد وجودها أمام العين الناظرة - هي مظهرٌ عنفي خالص. فالعُنف بناءٌ مؤسّسي وعقلٌ عسكري. أمّا حينما تعتدي علينا بالهراوات والبنادق والقنابل فهي تقوم بفعل إرهابي. وجوه العنف هذه هي ما يصطلح عليه بـ "إرهاب الدولة".
وبعد ثلاثين سنة من إرهاب الدولة وقفت إحدى المتظاهرات أمام ثكنة الحلو وهتفت "السلمي ما منريدو المندس يرفع إيدوا...!" ورفع الجميع الأيادي ليعلن الشّعب الإنقسام الذي سيوحّد حرب التحرير هذه.
تحريرٌ ممّ؟ إنه تحرير من نير إرهاب الدّولة من أتباع الإستعمار أي ممّا نسمّيه بالـ "السلطة اللبنانية" – حلف الطائفية والدين ورأس المال وحماته: الآلة الأمنية العسكرية.
ما هي التبعيّة؟ التبعيّة كما يصفها شباب طرابلس والبقاع وهم يصرخون لكرامتنا بأعلى حناجرهم وسط بيروت المحتلة – هي أولئك "اللبنانيون" الذين يقفون ببزّاتهم المرقّطة بالكحلي والأسود والأبيض والأخضر (وزملائهم من المخبرين المدنيين وشبيحة الأحزاب) يحمون حجارة السلطة العاجية من حجارتنا ومنطق السلطة من حناجرنا التي تنهال على دروعهم فيسمّونها "لا سلمية" وشغباً. التبعية هي رهن مصائر الشعوب إلى مشيئة رأسمال وقرار ومزاجية أعجمية.
لكنهم - عناصر ومسؤولون - لا يدرون أنّنا ننتفض وفي فعل الانتفاض نعيد للماضي الذي صادروه منّا ومحوا معالمه، نعيد له الحياة ونعيد الحياة للحاضر المُغتال. أي أنّنا نحرّر الحاضر من إرهاب أفعالهم وسرديّاتهم الزائفة. نحرّره من تلك المباني الفارغة. وبحجارتنا وهتافاتنا نعلن لمَّ شمل الصيرورة المقطّعة. وكأننا نتحاور مع ماضي النضال والثورة. نتحاور مع من صرخ في الثمانينيّات ورابط في بيته ضدّ خصخصة وسط البلد، ضدّ قتلة الصيادين والفلاحين بين البقاع وصيدا، ضدّ سياسة التجهيل في جامعات تنبذ فقراء القرى والمدن. وكأنّنا نعيد للماضي اعتباره، ونمسح الدمع عن هزائمه بكوفيّاتنا ونقشاتها الفلسطينية العراقية اللبنانية السورية.
نأخذ من الأرض حجراً ونضرب به كي نستخلص منه مسحوق الأمل والحياة. نحن نضرب بالحجارة ونحطم الزجاج ونكسر الأعمدة لأننا نريد أن نرى ماضينا ومستقبلنا بمنظور مقاوم منتفض "مشاغب"، وهذا يستدعي أن نغيّر معالم المكان الحاضر، فنضرب بالحجارة ونهتف ونغنّي "مش خايفين مش خايفين ومن الساحة مش فالين".
لا لن نبرح الساحات لأن الثورة - الإنتفاضة هي الحياة. هي أن نصرخ بكلّ ما أسكتهُ فينا إرهاب الدولة عقوداً.
الثورة هي الغضب، هي المشيئة التي لم تُروَ، هي الشّجن في القلوب المدنفة، هي الإحساس بالقهر والعوز ضمن حوار الحاضر مع ماضيه الذي ينفجر في جيلنا استهجانا، فسخطاً، فصرخة، فرميةَ حجرٍ. نسمي هذا الإيقاع بالعنف الثوري، النقيض لصمتهم العُنفي - لإرهاب السلطة. العنف الثوري هو المقوّض لدعائم احتلال السلطة للأرض والإنسان والمصائر والزمان.
في العنف الثوري حوار الأحرار، وبالعنف الثوري انتصار لكرامة الأجيال وتحرير للزمن والأرض والإنسان من نير الانصياع والخذلان. سنعيد ترتيب معالم المكان، وسنعيد لصيرورة الحركة الجماهيرية التحرّرية مجراها. سندحر بساطيرهم العسكرية وخطاباتهم الرجعية ورأسمالهم التابع عن أرضنا، وفضاء وعينا وبنيان مجتمعنا. وسنعيد الأرض للشعب، والشعب لأحلامه. حينها وبعد أن ينقشع غبار قنابلهم الفرنسية وتُشفى إصابات هراواتهم الأميركية وتحرق مؤلّلاتهم الإيطالية، ستبدأ معركتنا نحو الرفاه والكمال. سنعلن لبنان حرّاً من سلطة التبعية هذه. وإلى حينها سنضرب بالحجر وسنهتف، فالمواجهة قائمة والمسؤولية تاريخية.