لكنّ فيروس الطائفية في المنظومة السلطوية، يضرب المناعة الأخلاقية، في مجمل عمل السلطويّين. وهو يكمن في آليات وبنية السلطة، وينعكس انتشار الفساد وسرقة المال العام، على البلد والشعب بكامله، ويصل بمفاعيله إلى تهريب المال المسروق إلى الخارج، وإلى بدء الانهيار الاقتصادي والمالي، وإفقار الشعب وتجويع أكثريته، مجسِّداً بذلك التمازج الطبقي والطائفي، المتمثّل في النظام القائم.
ومع أنّ معظم الذين تعاقبوا على السلطة ليسوا هم أنفسهم، إلّا أنّ فيروس الطائفية وآلياتها هو المشترك في ممارساتهم البعيدة عن النزاهة، والمعايير الأخلاقية والقيمية، ومناقضة لوظيفة السلطة المؤتمنة على حماية المجتمع وقضايا الشعب الاقتصادية والاجتماعية. والأمر الذي يستدعي تساؤل الكثيرين هو لماذا يغيب تأثير القيم الانسانية والاجتماعية المحدِّدة للسلوك، التي تقرّها الشرائع الوضعية والدينية، وتنعدم في ممارسة السلطويّين رغم التظاهر بعكس ذلك؟ بالطبع قد نجد أكثر من جواب. فالبعض يرى أنّ الأمر يتعلّق بطبيعة الإنسان والطمع والجشع الذي يدفعه إلى شنّ الحروب والتسبّب بالدمار وقتل آلاف وحتى ملايين الناس، للسيطرة على الثروات وتكديس الأرباح. وكأنّ الأمر يتعلّق بالجينات، أو في خلل ما، داخل نفوس الممارسين. وتصبح المعالجة في هذا التشخيص شبه مستحيلة، ومرتبطة بالحظ أو بالقدر. وفي سياق هذا الموضوع نفسه، حدث معي أثناء محاضرة في ملتقى "مسيحيّي الشرق الأوسط" بدعوة منهم، أني بعدما عرضت أنّ هدفنا كحزب شيوعي لبناني، تحرير الانسان من الظلم الاجتماعي، بوصفه القيمة الأسمى في الوجود، والعمل لتحرير الوطن من التبعية والهيمنة الخارجية، معتبراً أنّ ذلك يلتقي مع القيم الانسانية والاجتماعية للمسيحية وللدين، توجّه إليّ أحد المستشرقين الحاضرين، وهو بريطاني قائلاً: ما طرحته عن النظرة إلى الانسان وتحريره من كلّ ظلم اجتماعي، ببناء مجتمع يلغي استغلال الإنسان، نتّفق معكم عليه. لكنّ الفارق بيننا، هو أنّنا نرى معالجة الخلل والظلم، بالإرشاد وإيقاظ الضمير وتطهير النفس من الجشع والطمع، بينما أنتم تلجؤون إلى الثورة الدمويّة. فأجبته أنّ هدفنا ليس الثورة الدمويّة، بل تحقيق التغيير الجذري لمصلحة المجتمع والفرد. وليس بالضرورة، بل من الأفضل أن لا يكون تحقيق التغيير دمويّاً. وهذا الأمر يتعلّق بدور سلطة النظام الظالم، وبتعاطيها مع حاجات الشعب وقضاياه. فإذا اعتمدت القمع الدموي بدلاً من الإصلاح والتجاوب مع الشعب، تكون هي التي تستدرج العنف المقابل. فنحن نرى على سبيل المثال، أنّه إذا ما كان وزير الصحة، متواطئاً مع تجار الأدوية والمستوردين، برفع سعر فاتورة الدواء، وتسويق الدواء المغشوش، معرّضاً صحة الناس والأطفال الى المزيد من الآلام وصولاً إلى الوفاة، إن المعالجة هي بتطهير الوزارة منه حماية للصحة العامة. وأنتم بوسعكم أن تأخذوا وقتكم بإرشاده وتطهير نفسه الذي قد يأخذ وقتاً طويلاً وهو خارج الوزارة. فاستجاب الحضور لرأيي. وما كان من مدير الندوة، وهو نائب بطريرك الأقباط، إلّا أن علَّق قائلاً: إنّ المحاضر على حق وإنّ المسيحية ليست استرخاء مع الظلم والظالمين، بل حازمة حياله، مستشهداً ببعض ما جاء في الكتاب المقدّس، وبما فعله المسيح مع تجّار الهيكل.
أمّا المشكلة الأخرى المنبثقة من "كورونا السلطويّين" فهي أنّهم لوّثوا السياسة أيضاً. وأخرجوها من طابعها كعمل شريف لخدمة الشأن العام، وأضفوا عليها صفة الاحتيال والكذب وسرقة الشعب. فكثيراً ما طمأن مسؤولو قطاع المال والمصارف، الناس، بقوة الليرة ومتانة الوضع المالي. وكثيراً ما كانت توجّه تهمة إلى الذين ينبّهون إلى خطورة الوضع الاقتصادي من الانهيار، بأنّهم معارضو العهد والسلطة. ألم يتحوّل عديدون ممّن دخلوا "جنة "السلطة وهم عاديّون، إلى أصحاب قصور وأملاك عقارية وثروات تتجاوز قيمتها عشرات ملايين الدولارات؟ بالطبع الذنب في كلّ ذلك، ليس على السياسة بل على السياسيين الذين لوّثوها بممارساتهم. ويبيّن تعدّد أسماء المتعاقبين على السلطة منذ 30 سنة حتى الآن، أنّ السبب الأساسي يتعدّى الأشخاص فقط، ويتعلّق في جوهر النظام وتكوين سلطته وآليات عملها، التي تتيح التشجيع على الفساد والسرقة والغش، وتحميه من المحاسبة. وهذا النمط يشبه بسريانه دوران حجر الطاحون. فهو يطحن كلُ ما يصل إلى موضع دورانه، سواء حبوب قمح أو شعير أم ذرة، ليصبح من يمانع الدخول في مجرى طاحون السلطة، يُقال أو يستقيل. ألم تكن استقالة الدكتور إميل بيطار وزير الصحة الأسبق، وجورج افرام بسبب موضوع الكهرباء، وشربل نحاس وزير العمل سابقاً وغيرهم، أمثلة على من لا يماشي طاحون السلطة؟
لذلك إنّ التغيير بالأسماء لا يكفي طالما بقيت المنظومة السياسية نفسها. فاستبدال اسم فيروس كورونا باسم آخر، لا يبطل استمرار مفاعيل هذا الفيروس.