يخيفون الشعب بالموت ليقبل بالمرض

رغم النقمة المتصاعدة في انتفاضة شعبية غير مسبوقة، تجاوزت الطائفية والمناطقية، رفضاً لسياسات الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، ومضاعفة نسبة المتعطلين عن العمل، فان اطراف الطبقة السلطوية، في السلطة والمعارضة، لا تزال أسيرة النظرة والذهنية نفسها. وهي تدور في نفس الدوامة. ولأنّ الصراعات الحادة في المنطقة، لا تتيح الاعتماد على وساطة او وصاية او دعم خارجي، كما جرت العادة، في مؤتمر الطائف 1989، ولقاء الدوحة 2008، فان الطبقة السلطوية أخذت تلجأ الى لقاءات تطلق عليها اسم لقاءات الحوار الوطني.

فإن مثل هذه اللقاءات أو المؤتمرات بين اطراف تجمعهم مصالح مشتركة، وسمة الفساد والصفقات، ويتحملون معاً، مسؤولية الانهيار والجوع الذي يدق أبواب مئات الوف العائلات، لا جدوى منها.
فالشعب وقضاياه وانتفاضته في واد، والسلطة واهتماماتها في واد آخر. فكثيراً ما كانت قوى التغيير المرتبطة بقضايا شعبنا الاجتماعية والوطنية، تطرح ضرورة عقد مؤتمر وطني شامل، منذ توقف الحرب الاهلية، تشترك فيه جميع القوى السياسية بما فيها العلمانية، لاجراء حوار فعلي يضع لبنان على طريق الخروج من ازماته، ويزيل أسباب الحروب الداخلية، ويفتح طريق التطور الديمقراطي لكن هذه الضرورات لم تلق آذاناَ صاغية. وبقي تكرار لقاءات حوار في هذا القصر او ذاك، وعلى مدى عقود، بين الاطراف السلطوية نفسها. ولا يختلف اللقاء الاخير في القصر الجمهوري، عن سابقاته مع ان الجديد يتمثل بمدى المخاطر الناجمة عن الضغوط الاميركية الصهيونية، لتمرير صفقة القرن، وتصفية القضية الفلسطينية، وقانون قيصر وضرره على سوريا ولبنان، وما يحمله من حالة اضطراب . هذا خارجياً ، ومن اهتراء داخلي وفشل للسلطة ونظامها، وصولاً الى استنزاف امكانيات الناس المادية، ومصادرة البنوك جنى عمر معظم الناس، والتحكم بودائعهم وانتشار الفقر والجوع، داخلياً.
ويبرز هذا السلوك، عدم اتعاظ الاطراف السلطوية، والتعلّم من التجارب المرّة، ودروس الحرب الاهلية. فلا يقرأون التاريخ. ويجعلون مصالحهم الخاصة وتحاصصاتهم ، فوق مصلحة الشعب والوطن. فممارساتهم وتعاطيهم مع الدولة، أشبه بانشداد القطط المتسابقة على كومة سمك. فلا تعود مبالية بأي شيء آخر وتستمر حتى لا يبقى الاّ الحسكة.
لقد أضافوا الى سلاح الطائفية الذي يستخدمونه عند الحاجة لتفرقة صفوف الشعب، سلاح تخويف الناس بالحرب الاهلية، تماشياً مع المثل الشعبي القائل،" فرجيه الموت بيقبل بالمرض" بغرض ارضاخ الشعب لسياسة الافقار والاذلال والجوع . أما لماذا لا يزال التلويح بالحرب الاهلية ممكناً، فذلك لا يستدعي نفكيراً عميقاً . فالنظام السياسي الطائفي الذي انتج حرباً اهلية مدمرة، وتوترات دائمة ، بقي هو هو. فآلياته وعاييره تحول كل خلل وتناقض سياسي او بين زعماء الطوائف والمذاهب ، الى اهتزازات وخطر حرب اهلية . فطبيعة هذا النظام لا تفرز ساماً اهلياً راسخاً، بل انقسامات وصرعات دائمة. والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق السلطات المتعاقبة، والمرجعيات الخارجية الراعية لها . فالابقاء على بنية النظام نفسها، وعدم تحقيق الغاء الطائفية كما جاء في اتفاق الطائف والدستور، والاحجام عن اقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية، تحفظ حرية الفكر والمعتقد والتغيير، وتساوي بين ابنائها بمعزل عن انتمائهم لطائفة ،هو الذي يبقي الوضع حاملاً في احشائه هذا الخطر. أمّا لماذا الاحجام عن هذا الاصلاح السياسي الاساسي بما في ذلك قانون الانتخاب فذلك لا ينجم عن جهل المسؤولين، بل من تمسكهم الشديد ، في هذا النظام الذي يوفر لهم التلاعب والخداع وتشويه وعي الناس، ويحمي فساده ومصالحهم وتجديد سلطتهم ، باسم تمثيل الطوائف والمذاهب.
لذلك فانّ الحوارات بينهم هي بمثابة من يتحاور مع نفسه، فيسمع الشعب صدى وضجيجاً، لكنه لا يرى طحيناً. وهذا ما يؤكد استمرار النقمة الشعبية والانتفاضة، وكل أشكال النضال الشعبي، لفرض التغيير وتشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية ولمدة محدودة، من خارج الاطراف السلطوية ، تمثّل الانتفاضة وقضايا وطننا وشعبنا الاجتماعية والوطنية فالمسكنات والقمع ليست حلولاً.