عشرة أيام غيًرت سوريا وهًزت الشرق: ماذا بعد.. وما العمل!

حسمت غرفة العمليات الغربية المشتركة قرارها بعد قراءة متغيرات الداخل السوري، وفيض هريان النظام البعثي ومؤسساته، وضعف الرافعتان: الإقليمية إيران، والدولية روسيا. وصدر الأمر في ليلة 27 تشرين الثاني بالهجوم الخاطف من إدلب. لتشهد سوريا زلزالاً أطاح بقوته النظام الاستبدادي من دون صدامات تذكر، ودماء تهدر. وازاح الزلزال بطريقه إيران وروسيا عن المشهد. وهروب رأس السلطة الاستبدادية إلى الخارج للنفاذ بريشه.

تاركاً خلفه عظائم الأمور من إنهيارات اقتصادية وكوارث اجتماعية، ودولة بلا روح وشعب بلا جسد. بعد أن حكم بالحديد والنار، وفق نظام برجوازي كومبرادوري هجين (عسكري وأمني وعائلي)، وبعد أن قوًض الإنجازات المحققة في بدايات البعث على المستويات الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافة القومية العربية، وحرق كافة مراحل التطور الصناعي والزراعي والتعليمي والتنموي والازدهار والتقدم الاجتماعي منذ قرار التحول إلى إقتصاد السوق الرأسمالي في تسعينيات القرن الماضي، وفتح الأبواب الواسعة لمافيات الفساد والخوات والنهب المنظم والممنهج من كبار أصحاب القرار العسكري والأمني والرأسمالي الاحتكاري والطفيلي ووسطاء تجار السياسة. لتبدأ مرحلة الإنحطاط الفكري والثقافي والاجتماعي، وتتوالى الإنهيارات الاقتصادية، وتتزامن مع إزدياد الفقر والبطالة والقمع والمنع.. وتبوء كتبة التقارير المناصب العليا مع الإفراط في تعميم الخوف والرعب والتهديد والترغيب والإعتقال الكيفي والتعذيب الوحشي في أقبية سجون تمثل القاضي والجلاد وقوانين الفروع الأمنية المتعددة. وهذا بدوره جرف معه مؤسسات الدولة، ونسف ما تبقى من روابط وطنية وقومية، وفرغ مضامين شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية. وهي أسباب داخلية جوهرية شكلت بتداعياتها الكارثية الحوافز الاساسية لمكونات الشعب السوري وقواه الوطنية والديمقراطية بإطلاق ثورته الشعبية المدنية السلمية في 15 آذار 2011. هذه الثورة التي قامت لمواجهة تداعيات النهج الاقتصادي الرأسمالي والنظام الأمني، والمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية والخبز والكرامة الوطنية، وتم مواجهتها بالقمع والتنكيل والإعتقال والتخوين وتشديد الأمن وتقييد الحركة.. لتشكل هذه المستجدات بدورها فرصة إضافية أمام الإمبريالية الاميركية وحلف الناتو والرجعية العربية في المزيد من التحريض والتدخل والضغط بحجة حماية ثورة الشعب السوري على خلفية: إضعاف سوريا وإخضاعها وإلحاقها بالتطبيع، والإستيلاء على ثرواتها الغنية من نفط وغاز ومياه ومواد أولية، ومد الأنابيب وطرق النقل، وتثبيت القواعد العسكرية والدعائم الجيوسياسية، وتفتيت وحدة الشعب والدولة وخلق الفوضى بما يتوافق مع المشروع الإستعماري الإمبريالي الأوسطي الجديد.
والنتيجة، سقوط مئات الآف الضحايا، وإعتقال الآف المواطنين، وتهًرب الشباب من الخدمة الالزامية والاحتياطية بسبب الخوف والفقر وسمسرة قادة العسكرة، بحيث تعرض أكثر من جيل للدمار والضياع والموت، ونزوح نصف سكان سوريا هرباً من الحرب والدمار والظلم والقهر والذل. هذا عدا ما خلفته السياسات الداخلية للنظام السابق، إلى جانب التدخلات والاحتلالات الخارجية: من تحاصص النفوذ والسيطرة العسكرية والاقتصادية على مقدرات البلاد، ومن حصارات وعقوبات وقانون قيصر.. ومن إنسداد أفق الحل بعد تعنت النظام ورفضه تطبيق القرار الدولي 2254.. كل ذلك، ادى إلى المزيد من ترهل النظام، والمزيد من الإنكماش في الناتج المحلي الإجمالي وتفكك البنى الاقتصادية وإنعدام الخدمات الإجتماعية والصحية، وإنهيار العملة الوطنية وتضخم الأسعار وإزدياد الضرائب وتدني الأجور بحيث تحول 94% من الشعب السوري إلى فقراء مشردين في الداخل، أو إلى نازحين متسولين في مخيمات الخارج.

سقط النظام السوري الاستبدادي، بالتوقيت التركي، وعلى يد "قوات هيئة تحرير الشام"(النصرة سابقاً)، خلال عشرة أيام فقط، غيًرت وجه وموقع سوريا وهًزت الشرق، وقلبت موازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية لصالح تحالف القوى الإمبريالية الاميركية والصهيونية والتركية والرجعية العربية. سقط هذا النظام المريع في حفرته، قبل أن يقتلعه الشعب السوري الذي أثبت بشجاعتة وكرامتة وتضحياته أنه يستحق الحرية والحياة. واستحقها عن جدارة.
وعلى أهمية الانجاز المحقق، إلا أن أمام هذا الشعب ومكوناته السياسية الوطنية تحديات لا تقل أهمية لترسيخ ما تحقق، وضمان المستقبل الآمن والمستقر في بناء الدولة التي دفع الأثمان الغالية لإجلها. دولة وطنية علمانية واحدة سيدة وحًرة. دولة الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية للجميع دون تفرقة أو تفضيل. هذه القواعد المتينة الصلبة تشكل حصانة سوريا الغد وقوتها ومناعتها، وبعدم الإنزلاق أو القبول بتكرار التجارب الفاشلة نفسها، ولو بأشكال وشعارات ووعود مختلفة، تفضي إلى النتائج السابقة ذاتها. فالثورة الشعبية السورية نأمل أن تتجه بمسارها نحو التغيير الديمقراطي الجذري من خلال إنتاج المشروع الوطني الديمقراطي من أجل "وطن حر وشعب سعيد". والوقوف صفاً وطنياً واحداً، وبحزم، ضد الأطماع الاستعمارية والإحتلالية التوسعية للإمبريالية والصهيونية والتركية والرجعية العربية، وفي صد مشاريع التجزئة والتفتيت والفوضى.. وحينها تكتمل الفرحة الكبرى في قدرة هذا الشعب السوري بقواه السياسية الوطنية الحية، وبكل مكوناته وأطيافه وقومياته الاجتماعية على تقديم النموذج الصحي والصحيح لسوريا، ولشعوب المنطقة العربية التواقة للتحرير والتغيير الديمقراطي.
طريق هذا المسار طويل ومعقد. لكن الثقة بنضال الشعب السوري وقواه الوطنية والديمقراطية كبيرة، والرهان على يقظته الثورية ضرورة، كي لا تتم سرقة فرحتة من قبل تحالف الاميركي والصهيوني والتركي الذين سارعوا لقضم جغرافية سوريا وتطويقها من الشرق والجنوب والشمال، والتوسع العسكري الصهيوني، وتدمير البنى العسكرية والمنشأت الدفاعية، وضرب مقومات الدولة السورية بكاملها، تمهيداً لضرب روحية الثورة السورية وأهدافها، وتغيير وجه وموقع سوريا وضمها إلى محور التطبيع تحت سلطة الوصايات المتعددة لحين رسم معالم "خارطة" الشرق الأوسط الجديد الخالية من دولة فلسطين والمقاومة والعروبة والحرية والسيادة.. وهي مؤشرات خطيرة على شعب سوريا، وعلى شعوب فلسطين ولبنان والمنطقة العربية برمتها.
*****
لقد خابت آمال شعوبنا العربية وكل الصامدين والمقاومين تحت الحصار والنار في غزة والضفة ولبنان الذين سطروا ملاحم في البطولة والثبات والشهادة في مواجهه اعتى عدوان صهيوني أميركي أطلسي ورجعي عربي وحشي، منذ عملية "طوفان الأقصى" النوعية للمقاومة الفلسطينية، في الرهان على صلابة الحاضنة لها في سوريا، وعلى القوة الاقليمية الإيرانية الداعمة لمحورها، وعلى نفوذ القطبية الروسية في المنطقة. بحيث أن جميع أطراف الصراع في سوريا، منفردة ومجتمعة، متفقة أو مختلفة، لم تصدق مشهد الإنهيار المريع والمعيب للنظام السوري السابق. رغم كل التحليلات التي تقود إلى سلة التفاهمات والصفقات الإقليمية والدولية لتأمين مصالحها العليا. فالروسي قايض الاميركي بوجوده في سوريا والمنطقة مقابل مكاسب في اوكرانيا. والإيراني قايض الاميركي على خط المحور للتفاوض مع ترامب حول النووي والحكم والعقوبات. والنظام السوري الذي خذل شعبه وتركه جيشه، فقد عرف قدره، وحسم أمره، وفرار رأس هرمه ذليلاً عارياً من كرامته الوطنية والإنسانية.
لقد طويت مرحلة نضاليه من مراحل الصراع الوطني والاجتماعي في المنطقة. وفتحت مرحلة جديدة، قد تكون أقسى وأعنف. لكن التأسيس للمرحلة القادمة بحاجة إلى تضافر عدة عوامل ذاتية وموضوعية. فالتقييم والنقد والمحاسبة والجرأة الثورية من ضرورات المرحلة الراهنة، واستخلاص الدروس والعبر من التجارب، للمساهمة في قراءة وفهم سمات المرحلة القادمة وررسم خارطة طريق فكرية وسياسية وبرنامجية ثورية، تفضي إلى إنتاج مشروع تحرري وطني بديل لمواجهة مخاطر مشروع الشرق الاوسط الاستعماري الجديد، وتداعياته.
هذا المشروع الثوري البديل ليس جديداً، لكنه بحاجة إلى تظهير وقوة وحضور بين الجماهير الشعبية وكل القوى العاملة والفئات الشعبية الكادحة الفقيرة، وإلى جانب القوى كافة السياسية الوطنية الجذرية. لإستنهاض الحالة الثورية، وتشكيل القاعدة الصلبة لتأسيس "حركة تحرر وطني عربية ثورية شاملة" وعمادها "جبهة مقاومة وطنية على إمتداد الساحة العربية" .
لقد إكتفت شعوبنا العربية ما بعد استقلالها الوطني من تجارب إنظمة برجوازية تابعة أو عسكرية ديكتاتورية أو رجعية متخلفة، أو عائلية وطائفية وأصولية.. ولم تعد تحتمل "ديمقراطية" معتقلات التعذيب والموت في صيدنايا وأمثاله، وغوانتانامو، وأبو غريب، وأبو زعبل، ومنافي سيبيريا، وكل سجون العالم. ولم تعد فرض القوانين العرفية والطوارئ، وسياسات التقشف الاقتصادية المختصة بالنهب والفساد وفرض الخوات مجدية ولا تخدم شعوبنا بالتنمية والتطور والتقدم.
كل إنسان وطني حر، وقف بالأمس إلى جانب إنتفاضات الشعوب العربية وحقوقها، فإنه، بالتأكيد، يقف اليوم إلى جانب الشعب السوري في تحديد خياراته. لتثبيت خطواته، والعناية بمولوده الجديد. والالتفات إلى كثرة الأعداء في الداخل والخارج المتربصين للإنقضاض على ثورته ودولته وثروته ومستقبله، بإفتعال التفرقة الطائفية والقومية، وتسعير الفتن والصراعات لخلق الفوضى، لخدمة مصالح وأهداف تحالف إمبريالية الخراب والدمار والموت. وهذه مسؤوليته كبيرة تقع الشعب السوري بأطيافه ومكوناته السياسية للتمسك بوحدته وحريته ومواقفه الوطنية، والتقدم نحو بناء دولتة الوطنية العلمانية الديمقراطية الموحدة القوية، وعبور المرحلة الإنتقالية بعناية لوضع الدستور وبناء الجيش والقضاء والمؤسسات الوطنية المنتجة والمتفاعلة والمستقلة، ومقاومة أي إحتلال أو وصاية أو تدخل خارجي. لتعيد لسوريا بعدها الوطني وعمقها العربي ودورها التاريخي في الأصالة والحضارة والثقافة والقيم الإنسانية. سوريا هذه، تليق بالشعب السوري الطموح والخلاق، وتساهم بالضرورة في تحفيز نضال شعوبنا العربية ومقاومتها المتطلعة للتحرر الوطني الشامل. وفي المقدمة القضية المركزية، وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة والتحرير وحق العودة وإقامة الدولة الوطنية الديمقراطية وعاصمتها القدس. كما حق شعبنا اللبناني والسوري في النضال والمقاومة لتحرير باقي المناطق المحتلة من العدو الصهيوني.
ان مشروع تحرير الأرض والإنسان مهمة ثورية فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وميدانية لا تنفصل لإنجاز التحرير والتغيير الديمقراطي والاشتراكية. والخيارات محددة في ظل تقدم مشروع الشرق الاوسط الاستعماري الجديد، إما القبول بقوة الهيمنة والهمجية أو الرفض والمقاومة بمشروع تحرري ثوري بديل.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 427
`


سمير دياب