وبدلاُ من انكباب المسؤولين على معالجة هذا الوضع والاستقواء بالشعب بتبنّي حقوقه ومطالبه، تواصل الأطراف السلطوية لا مبالاتها وحصر اهتمامها بكراسيها ومصالحها الخاصة. ويتبجّحون أنهم من حرصهم على الشعب وتجنيبه العتمة اقتطعوا مائتي مليون دولار من أموال المودِعين للكهرباء، بدلاً من أن تكون من الأموال المنهوبة المستعادة. هذا فوق أن المصارف سَرقت من الأموال الباقية للمودعين نسبة لا تقل عن 70% تبعاً لفارق سعر الدولار على الليرة. ومع تصاعد الغضب الشعبي وفقدان الثقة بأيّ حكومة من اختصاصيين أم سياسيين، من الطبقة السلطوية، نتيجة مرارة التجربة، يتكرّر في ذهن الناس قول رئيس الجمهورية بأننا "رايحين عَ جهنم" ووزير الطاقة ذاهبون إلى العتمة، ووزير الداخلية ذاهبون إلى الفوضى، ووزير الصحة ذاهبون إلى كارثة صحية.. الخ.
وإزاء هذه الحالة البائسة، يجدر التساؤل، هل أصبح من مصلحة شبكة الفاسدين وناهبي أموال الناس، من المصرفيين إلى المحتكرين إلى مافيا السلطة، تفضيل الانهيار والفوضى هرباً من المسؤولية والمحاسبة، ليصبح الشأن الأمني والحياتي هو همّ الناس الأول؟ أليس طرح الفيديرالية وتقسيم لبنان إلى دويلات طوائف يصبّ في مجرى الفوضى، وينهي لبنان الواحد كياناً ودولة، وكوطن ورسالة، ومثال لنجاح التعدّد والتفاعل الحضاري في إطار الوحدة؟ ألا يذكّر طرح التقسيم بالمشروع الطائفي المسبّب للحرب الأهلية التي يرفض شعبنا كلياً العودة إليها؟ ألم يكن اغتيال كمال جنبلاط، ونحن في أسبوع تاريخ استشهاده في 16 آذار1977، يرمي لاغتيال مشروع الحركة الوطنية التي كان يرأسها، والهادف إلى بناء لبنان العربي الديمقراطي العلماني، فيزيل الانقسامات والتناقضات الطائفية التي تُبقي لبنان مضطّرباً ومفتوحاً على التدخلات الخارجية؟
إنّ مسؤولية وصول لبنان إلى الانهيار والفشل، تقع على عاتق كافّة المسؤولين منذ توقّف الحرب الأهلية حتى الآن، المتمسّكين بنظامهم الطائفي العقيم. فالمخطط الأميركي الصهيوني يستغل التناقضات لافتعال الفوضى وتفتيت بلدان المنطقة المحيطة بإسرائيل إلى دويلات دينية وطائفية وإثنية. وإنّ سياسات الطبقة السلطوية ونظامها الطائفي المهترئ، هو بجانب منه ملاقاة للمخطط الاميركي الصهيوني، والثأر من لبنان الذي ألحقت مقاومته الباسلة الهزيمة بجيش الاحتلال الصهيوني واضطرته للإنسحاب من أرضنا من دون قيد أو شرط. وإن ضغوط هذا المخطط الآن، غرضها أيضاً فرض تنازل في موضوع رسم الحدود البحرية لصالح اسرائيل، وجرّ لبنان إلى مصاف دول العربية مُطبِّعة معها. وفيما يستدعي هذا الوضع وخطورته توحيد الطاقات الشعبية وجميع الحرصاء على لبنان الوطن والدولة وتحقيق التغيير الديمقراطي، يأتي طرح الفيديرالية وكأنه المخرج من هذا الوضع، في حين أنه سيزيد من حدّة التناقضات والصراعات. فقد برهنت الدولة الطائفية وسلطتها منذ الإستقلال إلى اليوم، وهي بمثابة فيدرالية طوائف، فشلها والوصول إلى ما نحن عليه اليوم.. كما أن الكانتونات الطوائفية أثناء الحرب الأهلية، أجّجت نزاعات وحروب دموية بينها وداخلها تحت عنوان الأمر لي.
وعلى أيِّ حال فإن التداخل السكاني لأبناء الطوائف والمذاهب يشمل مختلف المناطق اللبنانية، ويجعل وجود أبناء أيِّ طائفةٍ في منطقة دويلة طائفية أخرى، في وضع يشعرون فيه أنهم أقلية غريبة عن نسيج أكثرية سكانها، ممّا يشكّل زيادة تعقيدات وضع الكثير من الناس وحياتهم. وليس صائباً التمثُّل بدول اعتمدت الفيديرالية. فهي تقوم على أساس تعدّد الانتماءات القومية أو المساحة الجغرافية الكبيرة ولا يكون الإنقاذ والخروج من الحالة الكارثية، بتفتيت لبنان والذي يصحّ قول أحد رجالاته أنه أصغر من أن يُقسّم وأكبر من أن يُبتلع... فالسبيل إلى الحل هو بتلاقي أوسع ائتلاف شعبي، وتعاظم انتفاضة 17 تشرين التي جسّدت إرادة شعبنا في النضال لتحقيق التغيير، بدءاً من تشكيل حكومة انتقالية تعكس الإرادة الشعبية في وقف الانهيار، واستعادة المال المنهوب، وإقرار قانون انتخاب نسبي وغير طائفي وفي الدائرة الوطنية، يتيح للشعب أن يختار إنتاج سلطته.