أُسقطت للمرة الأولى في تاريخ الفلسفة والفكر الهالة الأكاديمية والنخبوية عن هذه الميادين وتقدّمت الماركسية كعلم "توحيدي" بين فكر الثورة وحركة الثورة المفكّر، بما هي دراسة وتمحّص في حركة وديناميكية الجماهير الثورية وفي قدرتهم على القيام بعمل واعٍ غير اعتباطي وغير عفوي بسبيل الدفع بصيرورة التقدّم قدماً. قدّم ماركس في كتابه هذا بعض التوقّعات أو الاستنتاجات منها أن الثورة، بفعل نضوج الطروف المادية، ستندلع أولاً في دول أوروبا الغربية الصناعية حيث تطوّر النظام الرأسمالي وتكوّنت فيها طبقة بروليتارية واعية على حالتها الاجتماعية والاقتصادية البائسة. أخطأ ماركس في التوقع وأتت المفاجأة من حيث لم يكن أحدْ يتوقع، روسيا القيصرية التي كانت ما تزال تتخبط في أزمة انتقالها من نظام القنانة إلى النظام الاقتصادي الحديث كانت أول دولة تنتصر فيها الثورة الاشتراكية ضاربة بعرض الحائط كلّ التحليلات الحسابية الجامدة. هذا الحدث دفع الكثير من المفكّرين الشيوعيين على رأسهم "غرامشي" إلى خوض تجربة نقد لتوقّعات ماركس بمحاولة فهم هذه التقلّبات التاريخية الخارجة عن المألوف الاقتصادي البارد. بعد أبحاث طويلة اتى غرامشي بنظرية بالغة الأهمية في تاريخ العلم الماركسي "الهيمنة الثقافية". يستنتج من خلالها المفكّر الإيطالي أن السيطرة الطبقية للبرجوازية لا تنحصر على الميادين الاقتصادية والسياسية فحسب بل تمتد لتسيطر على كافة نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية من الموسيقى إلى طريقة اللبس وأصول تناول الطعام وتهيمن بشكل أساسي على الأفكار السائدة في المجتمع، أي بكلمات أخرى، ترتضي الطبقات الكادحة بهذا الواقع بفعل تغييب الوعي الطبقي وتبديله بوعي زائف. إن هذه النظرية لم تأتِ من العدم، فصحيح أنها كانت محاولة لنقد الفكر الماركسي الاقتصادي المحاسبي التقليدي إلّا أن مفهوم الهيمنة الثقافية بما هي سيطرة طبقية في البناء الفوقي للمجتمع يمكن أن نجد بذورها عند ماركس نفسه في الفصل الأول من المجلد الأول لكتاب رأس المال حين طرح ماركس موضوع تقديس السلعة ووصفها بأنها "شيء غريب و معقد" وأنها تحتوي على "خبايا ميتافيزيقية" أي أنها تتخطّى كونها سلعة تضمّ قيمة استعمالية وقيمة تبادلية، فهذه حسب قول المفكّر السلوفيني سلافوي جيجيك تعتبر أول بذور لفكرة الأيديولوجية الثقافية الاستهلاكية أو بمعنى آخر أول تهيئة لمفهوم الهيمنة الثقافية. بعد ذلك طوّر المفكّر الماركسي البنيوي لويس التوسير مفهوم الأيديولوجيا المسيطرة كما يسميها. يحدّد التوسير من منطلقات لينينية معهودة بأن الدولة هي تتويج لسيطرة البرجوازية السياسية وأنها أداة في يد الطبقة المسيطرة لضمان استمرارية النظام القائم. يحاجج التوسير بأنه من أجل تحقيق هذه الغاية أي إعادة إنتاج نمط الإنتاج الرأسمالي، تحتاج الدولة إلى "أدوات". هذه الأدوات تنقسم إلى قسمين، أدوات الدولة الأيديولوجية تعمل على إعادة إنتاج الثقافة السائدة أو كما يعبّر التوسير "إعادة انتاج الخضوع لقوانين النظام السائد" هذه الأدوات تتكوّن من المدارس والجامعات والصحافة والعائلة وغيرها من أدوات أيديولوجية وثقافية تثبت نظم فكرية ومنطقية محدّدة. النوع الثاني من أدوات الدولة هي أدوات الدولة القمعية المتمثّلة بالعسكر والمحاكم والشرطة... التي تقمع بشكل جازم ومباشر كلّ حركة تهدف إلى تغيير النظام، عادة تلجأ البرجوازية إلى هذه الأدوات حين تعجز المكنة الايديولوجية عن إعادة إنتاج الثقافة المسيطرة. في هذا البحث سنكتفي بمناقشة وتحليل الأدوات الايديولوجية في المجتمعات العربية اليوم للتمكّن من فهم دور هذه الأدوات في بثّ فكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني وإنتاج ثقافة مهيمنة تشرع في الأوساط الشعبية وتطبع في ذهن العموم فكرة تقبل الكيان الصهيوني وإقامة علاقات "طبيعية" معه. من أجل ذلك، سنعرض ونفنّد أهم حجج هذه الأيديولوجية وسنعرّيها علمياً من وجهها البريء، من الجدير تنبيه القارئ أن اللغة الايديولوجية المستعملة من قبل الطبقات المسيطرة غالباً ما تكون بسيطة جداً إلى حدِّ البداهة وفق تعبير مهدي عامل في كتابه "مدخل إلى نقض الفكر الطائفي". من الطبيعي إذن، أن يشعر القارئ بميول أوليّة لمناصرة القول الايديولوجي، فلا يجب أن ننسى أبداً أننا جميعاً "كائنات ايديولوجية" وبالتحديد "كائنات ايديولوجية رأسمالية" تشرّبت أفكاراً مغلوطة وأحكاماً مسبقة منذ نعومة أظفارها، بالأخصّ في المجتمع اللبناني.
المقولة الايدولوجية الاولى: اسرائيل دولة متقدمة والشعوب العربية شعوب متخلفة
يقال الكثير في موضوع التقدّم والتخلّف ولعلّ أفضل إجابة على هذه المسألة هي كتاب مهدي عامل "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية" الذي ينتقد فيه المفكّر هذه المقولة الايديولوجية الشائعة ليستخلص في الأخير أن أزمة تطوّر البلدان العربية لا تكمن في "العربي" نفسه بل بطبقاته الحاكمة، التي تعيد إنتاج ظروف اقتصادية واجتماعية معيّنة تضمن لها البقاء في موقع الهيمنة. فهذه المقولة الايديولوجية التي ننقض، تخفي بمنطق غيبي جميع الظروف المادية التي أدّت إلى تراجع المجتمعات العربية وفي المقابل التي خلقت جواً مؤاتياً وداعماُ لتطوّر الكيان الصهيوني تقنياً وعلمياً، فيصبح الواقع على الشكل التالي: الانسان العربي (الشرق) متلازم وحالة التخلّف والاسرائيلي (الغرب) لصيق التطوّر ولا يمكن إلّا أن يكون كذلك وهذا هو بالضبط هدف الايديولوجيا المسيطرة، تحريف الواقع بتغييب الأسس المادية وجوهره المتحرّك والمتغيّر. من الأساسي دوماً في العلم الماركسي أن يطرح المرء التساؤل التالي:"لماذا ..؟" عندها فقط تبدأ الأوهام والأقنعة بالتساقط. أبرز هذه العوامل التي تعمل الايديولوجيا السائدة على إخفائها هي الاستعمار. فالاستعمار والامبريالية التي وبحسب تحليل لينين هي "أعلى درجات الرأسمالية" تؤسس لعلاقة استغلال للموارد الطبيعية والبشرية (النفط، الحديد، الغاز، الكوادر المتعلمة...) من خلال احتلال مباشر (مثل الاحتلال الصهيوني لفلسطين) أو احتلال غير مباشر (مثل معظم الدول العربية) من خلال تأسيس نظام تبعي تتحكّم به طبقة برجوازية تابعة تعمل لتأبيد سطوتها المجتمعية وبالتالي تأبيد سيطرة القوى الامبريالية. من أجل دعم دحضنا لهذه المقولة بحجج تاريخية ملموسة يجدر بنا أن نجول بشكل سريع على حقبات سابقة من تاريخ الشعوب العربية، فالشعوب العربية هذه المنعوتة دوماً بالتخلّف كانت بفترة من فترات التاريخ (خلال الخلافة العباسية مثلا) رائدة في مجالات العلوم والاكتشافات التقنية والفنون الخ... تماشياً مع المنطق البرجوازي السائد فأن الانسان العربي جوهر واحد لا يتغير، فكيف لهذا الانسان المتخلّف اليوم بحسب زعم هذه الايديولوجيا أن يكون ماضيه مزدهراُ ومتقدّماً علمياً وفكرياً على الغرب؟ بهذه الأسئلة تتهدّم حصون الايديولوجيا البرجوازية المتخلخلة أصلاً وتسقط الادّعاءات الايديولوجية الغيبية أمام الفكر المادي العلمي. أما بما خصّ "تقدم" اسرائيل فهذه المقولة لا تقل غيبية عن التي سبقتها، فالتسليم بتقدّم اسرائيل تقنياً وعلمياُ دون النظر إلى الأسس المادية وللظروف الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية المحيطة بهذه المقولة ضربة أخرى من ضربات الايديولوجيا السامة المعادية للعلم. فمنذ نشوء دولة "إسرائيل"، حتى قبل ذلك، حظيت الجمعية الصهيونية بدعم غير محدود في شتّى المجالات من قبل حلفائها في الغرب خصوصاُ بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. من خلال الدعم العسكري واللوجستي والدبلوماسي والمالي اللامحدود، يفهم المرء العلاقة المصلحية الوطيدة القائمة بين المركز الامبريالي والكيان الصهيوني كقاعدة متقدّمة له في الشرق الاوسط. لذلك، أزمة تقدّم الدول العربية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بوجود اسرائيل؛ فوجودها كعامل مزعزع للاستقرار في المنطقة هو سبب أساسي لأزمات الدول العربية ولعلّ موجة التطبيع الأخيرة بين الأنظمة العربية الرجعية و"إسرائيل" خير دليل على علاقة التلازم بين وجود هذا الكيان وتأبيد سيطرة الطبقات المسيطرة في المجتمعات العربية، أي بين وجود "إسرائيل" وأزمة تقدّم الدول العربية.
المقولة الايدولوجية الثانية: اسرائيل دولة ديموقراطية
من الشائع اليوم تبنّي الايديولوجية السائدة في الغرب من قبل برجوازيات العربية، القائلة بأن اسرائيل هي دولة ديموقراطية على شاكلة الدولة الغربية ويذهب البعض للقول بأن اسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق ..! قد أتى دحض هذه الايديولوجية على لسان المفكّر الاسرائيلي المعارض للكيان ايلان بابيه نفسه في كتابه "١٠ خرافات عن اسرائيل". الديمقراطية بتعريفها الاتمولوجي مكوّنة من كلمتين يونانيتين وهما: "ديموس" (أي الناس أو المواطنون)، و "كراتوس" (والتي تعني حكم). فالديموقراطية بأساسها هي حكم المواطنين أو حكم الشعب فيكون هو مصدر السلطات. يكفي النظر إلى الكيان الصهيوني بشكل سطحي جداً لمعرفة أنه كلّ شيء إلّا ديموقراطية، فمنع فلسطينيي القدس الشرقية من المشاركة في انتخابات السلطة الفلسطينية (المسخ) هي خير دليل على وجه هذا الكيان الديكتاتوري، الديموقراطية المدنية هي الأنظمة التي لا تفرّق بين مواطن ومواطن بناءً على عرقه أو دينه... أما في الكيان فحتى - اليهود الاثيوبيين - لم يسلموا من عنصرية اليهود الاوروبيين فكيف الحال إذن مع عرب ١٩٤٨ الذين تمارس بحقهم أبشع أنواع التهجير الممنهج وأحداث الشيخ جراح الأخيرة تساند هذه الأقوال. اسرائيل هي بشكل واضح دولة دينية يهودية لليهود (و ليس كل اليهود حتى ..!) لا تمت بأي صلة إلى الديموقراطية والمدنية أو العلمانية فهي نظام نشأ على دماء الأبرياء ويتغذّى من الموت والتهجير والقتل ومعتقلات التعذيب. هنالك عدة عناصر تساهم في نشر هذه الايديولوجيا الخاطئة منها محاججة أن عرب ١٩٤٨ لهم ممثلين في الكنيست ويشاركون "مثلهم مثل سواهم" في الانتخابات النيابية. بكلّ صراحة يصاب المرء بالدهشة حيال هذا الموضوع فمن جهة يساهم ممثلو عرب ال١٩٤٨ بتغطية وشرعنة سرديات الكيان الصهيوني، ومن جهة أخرى يحاجج البعض أن لولا وجودهم في الكنيست لساءت ظروف عيش فلسطينيي الأراضي المحتلة بشكل أكبر. أما بعين النظرية العلمية وبغضّ النظر عن الايجابيات الصغيرة المحتملة فإن مشاركة عرب ال١٩٤٨ في الانتخابات لا شك أنه يضفي شرعية على سلطة الكيان ويدعم الايديولوجيا المسيطرة. أما الحجة الغيبية القائلة بأنه على الأقل الإسرائيليون يختارون ممثليهم، أما الدول العربية فمعظمها بين دكتاتوريات وملكيات مطلقة، هذه الحجة تردّنا مباشرة إلى تحليلنا السابق عن ثنائية "التخلف والحداثة". يجب بنا دائماً إعادة وضع الموضوع في سياقه المادي أي في تربة الصراع الطبقي، فإن الطبقات الحاكمة في الدول العربية وأنظمتها (سواء كانت ملكيات او ديكتاتوريات) أسّست واستمدت قوتها من دعم الغرب الامبريالي لها وساهم هذا الأخير في قمع كلّ الحركات التحرّرية التي كانت تهدف لقلب هذه الأنظمة. نستنتج إذن، أن هذه الثنائيات الغيبية المتعارضة شكلاً لا تخدم إلّا مصلحة الطبقات المهيمنة وتشرع خياراتها الطبقية الحادة في إعادة إنتاج القائم وتأبيده. من الأمور أيضاً الذي يحاجج بها بعض المتعدّين على اليسار هو أنه في اسرائيل يوجد يسار معارض أكثر اعتدالٍ من اليمين العنصري. يجدر التصحيح هنا: لا يسار في اسرائيل، فاليسار بأساسه تحرّر وتحرير الأحزاب المنصرفة إلى اليوميات المعيشية بمحاولة للتغاضي عن قضية التحرّر في فلسطين، هم يسار كاذب ودجّال. إذن، رأينا فيما سبق أن عناصر هذه الايديولوجيا انتفت وعُرّيت؛ فأصبح المشهد جليّاً غير قابل للتأويل، الكيان الصهيوني دولة فاشية وعنصرية قائمة على سرديات مغلوطة نشرتها الرجعيات العربية لتدعيم هيمنتها.
المقولة الايديولوجية الثالثة: الفلسطينيون باعوا أرضهم
طالما تردّد إلى مسامعنا في مختلف المجتمعات العربية وبشكل خاص المجتمع اللبناني بمحاولة للإيديولوجيا المسيطرة تبرير السلام أو التطبيع مع اسرائيل، بأن الفلسطينيين هم من باعوا أراضيهم طواعيةً إلى اليهود وهنا أيضاً نواجه وهم وسردية ايديولوجية بثّتها الطبقات الحاكمة لتبرير عداءها المفرط لحركات التحرّر الفلسطينية وللقضية الفلسطينية بشكل عام. أولاً، واستناداً إلى وثائق تاريخية جمعها المفكّر فواز طرابلسي، والاستاذ أسعد أبو خليل، أيضاً عشية النكبة لم تتجاوز مساحة الأرض المباعة إلى الجمعيات اليهودية ال ٧ ٪ تقريباً؛ فالاستيلاء على أكثر من ٩٠ ٪ من الأراضي الفلسطينية تمّ بقوة النار وبسفك الدماء والمجازر. من الطريف ذكره، أن معظم الأراضي التي بيعت للجمعيات اليهودية كانت من ملاك غير فلسطينيين ولبنانيين بالتحديد، من عائلات تيّان وسلام وتويني وسرسق. فهذا تبرير جديد سقط أمام البحث والتدقيق العلمي. هذه المقولة الايديولوجية بالذات دورها أولاً تشريع التطبيع مع الاحتلال، وثانياً تبرير الفظائع المرتكبة من قبل الرجعيات العربية بحق حركات التحرّر الفلسطينية (في الأردن وفي لبنان).
ختاماً، يقول مهدي عامل "إن الثقافة، في تعريفها، مقاومة. فإذا ساوت بين القاتل والقتيل انهزمت في عدميتها، فانتصر القاتل، وكانت، في صمتها، شريكته." فمن الواجب اليوم على جميع الشيوعيين والتقدميين التصدّي بكامل قواهم وبكلّ أدواتهم العلمية إلى الموجات الايديولوجية التي تبثّها الطبقات الحاكمة من أجل دعم مشروعها التطبيعي مع الكيان الصهيوني، داهسةً بذلك حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في أرضه ووطنه.
قائمة المراجع:
- Ilan Pappe: TEN MYTHS ABOUT ISRAEL
- مدخل الى نفض الفكر الطائفي- مهدي عامل
- أزمة الحضارة العربية ام أزمة البرجوازيات العربية – مهدي عامل
- Sur la reproduction -Louis Althusser
- The prison notebooks- Antonio Gramsci
- تاريخ لبنان الحديث- فواز طرابلسي
•مقالة الأستاذ أسعد ابو خليل في جريدة الاخبار: https://al-akhbar.com/Opinion/113399