ويصل الوضع الى تشظّي أطراف الطبقة السلطوية المنبثقة أساساً من النظام الطائفي. وتتفاقم التبعية لهذه الدولة أو تلك. وذلك يجعل لبنان الشعب والوطن، ضحية صراعات هذه الأطراف وارتباطها مع الخارج المتناقض . أليس ما نشهده الآن بين السعودية وإيران والمخطط الأميركي الصهيوني وأغراضه، مثالاً على ذلك؟ فثمة من يستقوي بإسم طائفته ومن يدعم قوتها ليفرض سيطرته على الدولة والطوائف الأخرى. وآخر يندفع بدعم سياسي ومالي خارجي الى مواقف متطرفة زاعماً حماية طائفته. وثالث ورابع يظهران تساهلاً واستعداداً للمساومة على حساب مصلحة لبنان وسيادته وثروته، لقاء رفع عقوبات تتيح إمكانية تحقيق مطامح للكرسي أو الكراسي. ويجري ذلك في ظل ضائقة معيشية شديدة القساوة، تشمل حوالي 90% من الشعب. فيشعرون أنهم ليسوا في دولة. ولا في نظام صالح. ولا في ظل سلطة مهتمة أو قادرة على بقاء الحد الأدنى من معالم الدولة ولا في توفير الأمن الغذائي والاجتماعي، ولا الأمن الوطني والسيادة الوطنية، ولا احترام استقلالية القضاء. فقد أظهر عمق الأزمة وشموليتها أن صيغة النظام الطائفي ومعاييرها وآلياتها، لم تعد صالحة البتّة، وباتت خطراً حقيقياً على وحدة الدولة والوطن والكيان وعلى السلم الأهلي. ومع ذلك يصل العهر السياسي الى التمسك بها، ولا مبالاة السلطويين، وانصراف كل طرف لمصالحه الخاصة سواء في الحصص والفساد، أم في الحسابات الانتخابية، ربما جرت الانتخابات. ويدعي كل طرف في الوقت نفسه انه يريد الإصلاح، لكن الآخرين يعرقلون تحقيقه. وبرز في كل هذا السياق التناقض النافر بين الصيغة والميثاق الذي يبنى على أساسهما النظام والدولة وسلطتها. وفي حين أن الهدف الجوهري للميثاق هو وحدة الشعب وعيشه وحياته المشتركة، تفرز الصيغة بمعاييرها الطائفية التحاصصية، إنقسامات وتناقضات تجعل السلطة نفسها في حالة ارتباك واهتزاز، ويتحول معها كل اختلاف الى مشكلة وشلل في عملها. ويتيح المفهوم المشوّه للميثاق، إمكانية لجؤ كل طرف أو زعيم طائفة للإبتزاز بالتهويل بالانسحاب أو عدم المشاركة في الحكومة إلا بفرض شروطه. فالميثاقية التي تنطوي أصلاً على تحقيق وحدة الشعب والوطن، جرى إغراقها وقتلها بالصيغة العجيبة، التي بالإنقسامات التي تستولدها، تُميت روح الميثاق وروح الوطن، ومعهما وظيفة الدولة ودور السلطة. ويصل التعطيل مثلا الى رفض تعيين نواطير للإحراج لنقص في الميثاقية لعدم التوازن الطائفي عدديا.
لقد أدى اعتماد هذا المفهوم للميثاقية على الصعيد الفوقي وبتشكيل الحكومة، الى مشاركة جميع الكتل البرلمانية الممثلة للطوائف فيها، مما ينقل الاختلافات والصراعات الى داخلها. فعدا الابطاء في انتاجيتها، يتسبّب ذلك بمنع محاسبتها. فهي نسخة مصغّرة عن تركيبة البرلمان.. ونتيجة لذلك بقيت الدولة مزارع لزعامات الطوائف والوطن مغيباً والسلم الأهلي مهدداً. فالبلد يفقد سيادته ويعاني التمزق واستضعاف الخارج له. لكن الذهاب الى كانتونات ودويلات طائفية وفيدرالية، ليس هو الحل. فالتناقضات والصراعات تصبح بين دويلات الطوائف والمذاهب وفي داخلها، كما بينت تجربة الحرب الأهلية. والفيدرالية يمكن أن تكون حلا في بلدان متعددة القوميات والإتنيات، أو التي تمتلك جغرافيا شاسعة الأطراف. فلا تعدد الطوائف في لبنان قوميات، ولا حجمه الجغرافي يستدعي أكثر من لا مركزية موسعة. فإنه كما قال أحدهم "أصغر من أن يُقسّم وأكبر من أن يُبتلع". وما يحتاجه هو إقامة دولة مواطنة تساوي بين أبنائها على اختلاف طوائفهم واحجامها. فـتُوحّد شعبها كحجر الأساس لمناعتها ودورها، ولبناء وطن حصين. وتعزز قدرة الدولة على حمايته وبتحقيق عدالة اجتماعية للعيش بكرامة. ولا يعود بإمكان أي خارج أن يستضعف لبنان، أو أن يفرض عليه ما لا يريده شعبه. كما لا يعود أي طرف داخلي أقوى من الدولة والقانون.