إستقلال ضائع وشعب جائع

يمرّ عيد الاستقلال هذا العام في ظروف هي الأشد قساوة على شعبنا ومعيشته الاجتماعية. وقد فقد هذا العيد معانيه خاصةً في الأعوام الأخيرة بسبب طبيعة التناقض والانقسامات التي يستولدها النظام الطبقي الطائفي وسلطته التي أدت الى تجويع الشعب وتضييع الاستقلال وتحلل الدولة.

والمعلوم أن الاستقلال لم يكن منّة من أحد. فقد استوجب تضحيات ونضال شعبي طويل. وكانت نشأة الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924، استجابة للحاجة الموضوعية للنضال في الظروف الجديدة من أجل الاستقلال والدفاع عن حقوق الطبقات الشعبية. وقد كان للمؤتمر الوطني عام 1943 الذي ضمّ عشرات الشخصيات الوطنية، ولقائد الحزب الشيوعي فرج الله الحلو في قيادة مكتب التعبئة الشعبية للمؤتمر، وأرتين مادويان الذي شارك عن الأرمن، ومصطفى العريس عن النقابات العمالية وانطون تابت وجورج حنا، في هذا المؤتمر، دوراً كبيراً في احتشاد الجماهير في جميع الشوارع والساحات في بيروت والمدن الأخرى، وعلى مدى عشرة أيام، من تشرين الثاني 1943 حتى جرى الإقرار بالإستقلال في 23 من الشهر نفسه. وقد استمر هذا النضال الوطني لحماية الاستقلال ضد ربطه بعجلة حلف بغداد، وضد التبعية للخارج، وفي إطلاق جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني.
وفي حين أن الاستقلال ليس مجرد حدث ينتهي بانتهاء تاريخ حصوله، بل هو عملية بناء مستمرة، يرتبط بها بناء اقتصاد وطني، وبناء دولة الاستقلال على أسس تبني وطناً موحداً، ودولة لجميع أبنائها، تعمل لتلبية حاجات الشعب والطبقات الكادحة وتوفير العيش الكريم للبنانيين، أقدمت الطبقة السلطوية على اعتماد سياسات وتدابير تنطلق من مصالحها الطبقية الخاصة، واستخدام السلطة ومؤسسات الدولة في خدمة كبار أرباب المال والاحتكار. وبدلاً من تعزيز الاستقلال ومقتضياته، تحولت السلطة والطبقة التي تمثلها الى استغلال الشعب، فحوّلت الدولة بالنظام الطائفي التحاصصي، من دولة للشعب الى مزارع لزعماء الطوائف، وشركة يتقاسمون مغانمها. فباختلافهم على الحصص وباتفاقهم يكون الشعب هو الضحية. وهذا ما أدّى الى تباطؤ وشلل سلطوي، والى الانهيار الكبير الحالي، والى تجويع الشعب ودفع ابنائه الى الهجرة، وبعضهم في مراكب الموت. وقد كان طبيعيا ان تنفجر النقمة الشعبية بانتفاضة 17 تشرين 2019، التي اخترقت حواجز الطوائف والطائفية مُطالبةً بإسقاط السلطة الفاسدة والعاجزة ونظامها الطائفي الذي تحتمي به.
ولم يكن القمع السلطوي والميليشيوي من جهة، ومحاولات الأطراف السلطوية احتواء الانتفاضة وهدفها وقضيتها وأولوياتها من جهة أخرى، وإقدام حراس النظام الفاسد مع سلطته، على حمايته، باتهام انتفاضة المليون لبناني من جميع الطوائف والمناطق، بأنهم عملاء وأتباع سفارات، ليس إلاّ تعبيراً فاضحاً عن التسمّك بنظام الإفقار والتجويع والتبعية خوفاً من الشعب ووعيه وشجاعته.. فإلصاق مثل هذه التهمة تكشف عن مصالح خاصة ليست لها علاقة بقضايا الشعب. فالنضالات والتضحيات المتعلقة بالوطن وتحرير أرضه، لا تتناقض مع الحاجات الضرورية والحياتية للمواطن، بل تستوجب تحقيق هذه الحاجات والحقوق. إلا إذا كان المطلوب أن تنعدم مقومات الحياة في لبنان.. وإذا ما كان الخصم الداخلي والعدو الخارجي يسعيان للاستفادة من أوضاع متردية كهذه، فما على الحريصين على الاستقرار وتفويت الفرصة على المستغلين، إلا اعتماد سياسة ومواقف تلبي الحاجات الضرورية للشعب. فلا يوجد شرع إنساني أو ديني أو أخلاقي يقبل بموت الجائع في بيته.
والمشكلة الأساسية هي في ان المتمسكين بهذا النظام، ينطلقون من مصالحهم الخاصة، لحماية نظامهم الطائفي الفاسد. لذلك ليس غريبا عليهم تضييع معالم الاستقلال، والافتقاد للدولة المتماسكة الحديثة لتكون موّحدة وسيّدة داخليا وخارجياً. وها هم بعد تغييب ملامح الاستقلال، يغيّبون ايضا سيادة لبنان وحقه الكامل في ترسيم الحدود البحرية، بتنازلهم عن الخط 29 ومساحة 1400 كيلومتر مربّع في البحر ، للعدو الصهيوني. ويزعمون انهم حققوا نصراً للبنان .
إن شعبنا اللبناني الذي ناضل طويلا من اجل نيل الاستقلال، وقاوم الضغوط الأميركية والاحتلال الصهيوني، لن يصمت على جشعهم وعلى إفقاره وتجويعه. فالساكت عن الحق شيطان أخرس.. وسيواصل تحركه وطنياً وضد الظلم الاجتماعي من أجل لبنان سيد عربي مستقل، يقوم على الترابط الموضوعي بين قضية الوطن والقضية الاجتماعية.

  • العدد رقم: 410
`


موريس نهرا