العيد المفقود

ينتهي هذا العام وتستمرّ معاناة شعبنا اللبناني وظروف حياته المقلقة والشديدة القساوة. وتُخيّم أجواء هذه الحالة على أسبوع الأعياد، وخصوصاً عيد رأس السنة. والعام ينقضي غير مأسوفٍ عليه ليبدأ عامٌ جديد. ورغم أنّ مرور السنين هو قانون طبيعي يشمل جميع الناس والأعمار، فإنّ العيد في العام الجديد لا يشمل كل الناس.

وإذا ما كان تبادل التهاني والتمنيات في العام الجديد فذلك تعبيرٌ عن استمرار وتجدُّد حياتهم، وتعبيرٌ أيضاً عن الأمل في أن يحمل العام الجديد بشائر ظروف أفضل تنقضي معها حالة الأزمات والانهيارات والانحدار المستمرّ في جميع المجالات. وفي ظروفٍ بائسة كهذه لا يشعر بالعيد إلاّ قلّة من اللبنانيين الذين بوسعهم إسعاد أطفالهم. فالعيد هو بالدرجة الأولى في بهجة الأطفال والأولاد وفرحهم، ويتجلّى بالنسبة إليهم في ثيابٍ جديدة وهدايا تناسب أعمارهم، وفي طعامٍ شهيٍّ وحلوى العيد، وفي التنزّه في الأماكن التي تفرح الأطفال بألعابٍ خاصة بهم، ليكون يوم العيد مختلف عن باقي الأيام.
فهل يمكن لفقراء لبنان وهم أكثرية شعبنا الساحقة أن يكون بمقدورهم تلبية رغبات أولادهم ليشعروا هم والأولاد بفرح العيد؟
إنّ ما يزيد مرارة الأهل وأولادهم، خصوصاً بمناسبة العيد، هو ما يرونه في حياة القلّة الطاغية في السلطة وخارجها، الذين راكموا الثروات والمليارات من سرقة أموال الشعب واستغلال الاحتكارات الجشع ومصادرة ودائع الناس في البنوك وتهريب عشرات ومئات مليارات الدولارات إلى الخارج، استحصلوا عليها من طريق الفساد والهدر وتحاصص المنافع والصفقات. وهؤلاء هم في الوقت نفسه يستمتعون مع أولادهم بالعيد بأموال الناس. في حين أنّ أولاد الفقراء يعانون الأمرَّين في ظروف حياتهم الصعبة وعتمة بيوتهم وفي برد الشتاء، ويتضوّر كثيرون منهم جوعاً. فكثيرون يأكلون مرّتين في اليوم بدلاً من ثلاث مرّات. ويجري حجب الحليب والدواء والاستشفاء عنهم وليس الاستمتاع بالعيد فحسب. ولا يمكن القبول إطلاقاً بالقول إنّ هذا التفاوت الطبقي والاجتماعي الكبير هو قدرٌ أو حظٌّ عاثر. فجميع هذه المساوئ والمظالم الاجتماعية تنبثق من صلب النظام السياسي وبنيته الاقتصادية والاجتماعية، وسياسات طبقته السلطوية. وإنّ تغطية جوهره الطبقي بالطائفية ومحاصصاتها هو لتضليل الناس وإحلال الفرقة والتناقض بينهم، لإبقاء نظام الفساد على الأسس الطبقية والطائفية نفسها، طالما أنه يخدم مصالحهم.
أما العيد فهو بالأساس لكل الناس وللأولاد الذين يمثّلون التجدّد والمستقبل. وليس العيد هو الذي يهجرهم، بل ينجم إفتقاده من ممارسات أهل هذا النظام وسلطته وطغيان مصالحهم الخاصة، وسوء إدارتهم وتناقضاتهم. فهم متسبّبون في حالة الإفقار والانهيار. وليس غريباً أن تكون مطامح الناس وآمالهم التي تجلّت بأضخم إنتفاضة قام بها شعبنا في 17 تشرين، هي إسقاط النظام الطائفي وطبقته السلطوية. فبدون هذا التغيير لا تتغيّر حالتهم وظروف حياتهم ومعيشتهم الاجتماعية. وهذا لا يتحقق على يد الطبقة السلطوية، بل يصنعه الشعب.
فالحركة في المجتمع هي من صنع البشر وتدخّلهم وبدون دور جمهور كل شعب وقيامه بمسؤوليته لا يتغيّر ميزان القوى لصالح تحقيق المصالح الشعبية إجتماعياً ووطنياً. ويصح هنا قول الشاعر أحمد شوقي:
"وما نيل المطالب بالتمني ولكن توخذ الدنيا غِلابا/ وما استعصى على قومٍ منالٌ إذا الإقدام كان لها ركابا".
لم تعد مساوئ هذا الوضع مقتصرة على إفقار أكثرية اللبنانيين الساحقة، مع أنّ هذه قضية كبرى بحدّ ذاتها، بل وصل مأزق هذا النظام الطبقي الطائفي إلى اختلال صارخ في أسس بنيته، وإلى تناقضاتٍ وخلافاتٍ تكبّل انتظام وتسيير أعمال الدولة وسلطتها، وتُهدّد وحدة الكيان أيضاً. وبات التغيير هدفاً ومهمةً إنقاذية ضرورية من أجل بناء وطن موحَّد لجميع أبنائه، ليستطيعوا العيش فيه موفوري الكرامة، ولتتوفّر فيه ما تستدعيه الحياة، وضروريات العيد وفرح جميع الأطفال.
كل عام وأنتم بخير.