النظر إلى المجتمع من زاوية الإنتاج والعمل
تُخطئ الكثير من التعريفات للرأسمالية والاشتراكية في تحديد ماهيتهما، إذ غالبًا ما تضيع في توصيفات لا تحدد النظامين. باختصار، يدور الاختلاف الأساسي بين النظامين حول ما أسماه ماركس "وسائل الإنتاج"، وهي كل ما يستخدمه العمال لإنتاج السلع والخدمات، مثل الأرض أو الآلات أو الأدوات أو الموارد. والسؤال الأساسي هو: هل يجب أن تكون وسائل الإنتاج هذه ملكًا للأفراد أو الشركات الخاصة، أم يجب أن تكون ملكًا للمجتمع ككل؟
تعتبر الرأسمالية على أن وسائل الإنتاج يمكن أن تكون ملكاً للأفراد أو الشركات الخاصة. وبالتالي فهي تنص على أن الثمن المدفوع مقابل السلعة أو الخدمة يذهب إلى مالكي الشركة التي أنتجتها. أي أن هؤلاء المالكون يحصلون على منافع، ليس من عملهم في إنتاج السلع أو الخدمات، بل من المال الذي استخدموه لشراء وسائل الإنتاج (وهذا هو تعريف "رأس المال"). ثم يتلقى العمال الذين ينتجون السلع أو الخدمات أجرهم كجزء من اتفاق بينهم وبين أصحاب رأس المال. أما الاشتراكية فتعتبر أن وسائل الإنتاج يجب أن تكون ملكاً للمجتمع ككل، وأن قيمة السلع أو الخدمات المنتجة تعود بالكامل للعمال الذين أنتجوها.
قد تبدو المسألة أعلاه مسألة نظرية، من الأفضل تركها "للخبراء" الاقتصاديين. ولكن من خلال التركيز على مسألة وسائل الإنتاج وقيمة العمل، سلّط ماركس وآخرون قبله وبعده الضوء على مسألة أساسية تؤثر بعمق على المجتمع والحياة البشرية. فقد أظهر أنه نظرًا لأن الرأسمالية تسمح للبعض بكسب المال دون إنتاج أي شيء بل من إنتاج الآخرين (ما يسمى اليوم "الدخل السلبي")، فإنها تخلق فعليًا طبقة طفيلية، مما يؤثر سلبًا على المجتمع ككلّ.
الرأسمالية بجوهرها معادية للديمقراطية، بل وحتى إجرامية
لسرقة أصحاب رأس المال لقيمة عمل العمال ليست فقط غير عادلة من الناحية الأخلاقية، بل هي في الواقع مأساوية للبشرية. ولأن الرأسمالية تسمح بتراكم الثروات الهائلة في أيدي قلة من الأفراد والشركات، فإنها في واقع الحال تمنح هؤلاء سيطرة لا مثيل لها على المجتمع بثلاث وسائل على الأقل: أولاً، السيطرة الزبائنية. على سبيل المثال، توظف أمازون حوالي 1.5 مليون فرد، مما يحد من حريتهم في اتخاذ مواقف ضد سياسات أمازون. وقد شهدنا مؤخرًا حالات فقد فيها أولئك الذين يتخذون مواقف علنية ضد الإبادة الجماعية في فلسطين وظائفهم في المؤسسات الأكاديمية أو شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة.
ثانيًا، احتكار وسائل الإعلام. على سبيل المثال، يسيطر بضعة مليارديرات على 90% من وسائل الإعلام الفرنسية. والوضع مشابه في المملكة المتحدة حتى في جميع أنحاء العالم. وقد مكّن هذا الاحتكار من التسامح مع الإبادة الجماعية في فلسطين وأخفى عددًا لا يحصى من عمليات الإبادة الجماعية الأخرى عن الشعوب الأوروبية والأمريكية الشمالية.
ثالثًا، القدرة التنظيمية، بما في ذلك التنظيمات الحزبية واللوبيات. فغالبا ما يدعم الرأسماليين الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد، كما هو الحال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حيث تداول حزبين السلطة على مدى مئات السنين. وهذا يسمح لهؤلاء الرأسماليين بسن سياسات تعود عليهم بالنفع، مثل قيام الـ 1% بتخفيض الضرائب على أعمالهم، أو قيام قطاع الأغذية والأدوية بتقنين الأغذية والأدوية الضارة، أو قيام صناعة الأسلحة بالتأكد من وصول مرشحي الحرب إلى السلطة، أو قيام أيباك AIPAC بالتأكد من أن جميع المرشحين الرئيسيين للرئاسة الأمريكية هم من الصهاينة.
كل هذه الأسباب تتيح التأثير في الانتخابات، دعم المرشحين، اقتراح القوانين والدفع بإقرارها، ابتزاز الدول، توجيه الناس، وغيرها. لذا، إن النظام الذي يسمح بتراكم رأس المال هو نظام احتكاري معادٍ للديمقراطية في جوهره. وقد أظهرت الإبادة الجماعية في فلسطين قدرة رأس المال على تجاوز الإرادة الشعبية: فبينما كان معظم أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي ضد تدفق السلاح الأمريكي إلى المستعمرة في 2024، انحاز مرشحو الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى جانبه، متجاهلين تمامًا ليس إرادة الشعب بشكل عام بل حتى إرادة ناخبيهم وأعضاء أحزابهم.
سرقة قيمة عمل العمال والسيطرة غير الديمقراطية لرأس المال ليست المشكلة الوحيدة في الرأسمالية. فقد حلل ماركس أيضًا تأثيرها على سعادة الإنسان - وهي كلمة نادرًا ما تستخدم في الشعارات الرأسمالية، على الرغم من أنه يمكن القول إن السعادة أحد مساعي البشر الرئيسيين. على سبيل المثال، بفصلها العمال عن امتلاك وسائل الإنتاج وعن اتخاذ القرارات التجارية، فإن الرأسمالية تُغرب alienates العمال من عملهم. والنتيجة هي أنه بدلًا من أن يكون عملنا شيئًا نستمتع به، شيئًا نستمد منه المتعة والرضا والمعنى، فإنه في أغلب الأحيان يكون شيئًا نقوم به لأننا مضطرون لذلك. ومن المثير للاهتمام أن هذا يؤدي بدوره إلى استنتاجات خاطئة، مثل أن البشر كسالى بطبيعتهم ولن يعملوا دون حافز مالي. وهي وجهة نظر تعجز عن تفسير الهوايات (حيث ننتج بسعادة في وقت "فراغنا" بعد العمل)، ناهيك عن آلاف السنين من تاريخ البشرية وإنتاجها وإبداعها.
ولكن، أليست الاشتراكية غير واقعية؟
كل الحياة، سواء كانت إنسانية أو غير ذلك، مشوبة بالمعاناة إذ أمما في أفضل الأحوال سوف نمرض ونشيخ ونموت. لذا، لا يوجد نموذج اقتصادي أو سياسي مثالي. ويجب أن نكون قادرين على نقد الاشتراكية، وهذا ما سنتناوله أدناه. ومع ذلك، فإن عددًا من الاعتراضات على الاشتراكية هي نتاج الهيمنة الرأسمالية على الخطاب. فيما يلي إجابات على أربعة اعتراضات شائعة.
"كيف يمكننا العيش بدون ملكية خاصة؟ أريد امتلاك منزل وتلفاز!" - تنتقد الاشتراكية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وليس الملكية الشخصية. في بلد أو عالم اشتراكي، يمكننا أن نمتلك المنازل وأجهزة التلفاز، وأي أمر يستطيع المجتمع إنتاجه. في الواقع، إن عدم تراكم الثروة في أيدي الطبقة الرأسمالية يعني أن هناك المزيد لإعادة توزيعها بين السكان. فهدف الشيوعية تعميم الرفاه بدل تعميم البؤس.
"لكن المنافسة أمر جيد والاحتكار أمر سيء" - هناك بالتأكيد قيمة للمنافسة، ويسمح بها عدد من النماذج الاشتراكية. ما لا تسمح به هو السيطرة على وسائل الإنتاج التي تنتهي حتمًا إلى ما تدعي الرأسمالية أنها تمقته بالضبط: الاحتكار. فكروا في العدد المحدود جدًا من العلامات التجارية في مجالات مثل الإلكترونيات أو السيارات أو التوزيع. حتى الآلاف من العلامات التجارية التي نراها في قطاعات رئيسية مثل صناعة الأغذية تنتمي في الواقع إلى عدد محدود جدا من الشركات. ضفوا إلى ذلك احتكار الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام المذكور أعلاه. كما أن تراكم الثروة يسمح لهذه الشركات المليارية بصد قوانين مكافحة الاحتكار.
"أليست الاشتراكية استبدادية؟" - لقد كانت جميع جوانب الحكم البشري تقريبًا استبدادية، وهذا يشمل -بحسب البعض- النسخة "الستالينية" من "الاشتراكية" التي هيمنت على الكتلة السوفييتية خلال القرن العشرين. ومع ذلك، فإن الاستبداد ليس ملازمًا للاشتراكية كما هو ملازم للرأسمالية، إذ لا يسمح بوجود طبقة رأسمالية تستخدم ثروتها للتأثير و/أو الوصول إلى السلطة. ولا يزال النضال من أجل إقامة نظام حكم يتساوى فيه البشر ويمارسون السيطرة الديمقراطية على شؤونهم مستمرًا، وهذا المقال دعوة للمساهمة فيه.
"بالتأكيد، لكن الاشتراكية فشلت" - لا شك أن الكتلة الاشتراكية خسرت الحرب أمام الكتلة الرأسمالية. لكن هذا يدل على أن الكتلة الاشتراكية كانت أضعف، ليس على أن الطبقة الرأسمالية يجب أن تمتلك وسائل الإنتاج. وعلى سبيل المقارنة، نجح المستوطنون الأوروبيون في إبادة شعوب بأكملها ونجحوا في ذلك إلى حدٍ كبير في فلسطين منذ 1948 - فهل يعني ذلك أن الاستعمار الاستيطاني فكرة جيدة؟
نقد الاشتراكية الكلاسيكية والعقائدية
كما ذكرنا، لا يوجد نموذج اقتصادي أو سياسي مثالي. ومع ذلك، لا يزال العديد من الاشتراكيين اليوم يقدمون أنفسهم على أنهم ماركسيون أو تروتسكيون أو ماويون، أو يميلون عمليًا إلى نسخ ولصق العقائد الاشتراكية الكلاسيكية المجهزة مسبقًا باعتبارها حقائق مطلقة. لذلك فإن نقد أدوات التحليل والعمل السياسي الاشتراكي هو مفتاح البقاء على اتصال بالواقع وتقديم بدائل فعالة للرأسمالية.
يجب أن يشمل هذا النقد الأخطاء الواضحة مثل التنبؤات الماركسية الفاشلة. على سبيل المثال، تنبأ ماركس أنه بسبب تزايد عدم المساواة في ظل الرأسمالية، فإن الطبقة العاملة ستثور حتمًا. وتنبأ كذلك بأن هذا سيبدأ في البلدان التي كانت الرأسمالية فيها أكثر تقدمًا مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة، وأنها ستنتشر وتتجاوز الهويات الوطنية وتصبح في نهاية المطاف حركة عالمية. يحتاج الاشتراكيون اليوم، ليس فقط للاعتراف بهذه الأخطاء العقائدية، بل لفهم أسبابها من أجل تجنب تكرار الأخطاء نفسها.
ومن بين هذه الأخطاء جوانب المجتمع الإنساني التي تقع خارج إطار الماركسية. ويشمل ذلك مفهوم غرامشي للهيمنة الثقافية، وهي مجموعة من القناعات وأنماط التفكير التي يعتبرها المجتمع طبيعية أو عادية وبالتالي لا يحاول مواجهتها، بل يمانع مواجهتها. ويمكن أن يشمل ذلك التطبيع مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو الاعتقاد بأن الانتخابات هي الوسيلة الأساسية للتغيير. كما أن الاشتراكية الكلاسيكية لا تلحظ حجم تأثير الهويات الدينية أو العرقية أو الجنسية أو الجندرية أو غيرها في المجتمع، لاسيما حين يتمّ توظيفها لشدّ العصب، ممّا يثير غرائز وعواطف بدائية primal فتطغى حتى على المصالح المادية المباشرة. كما يمكن أن تشمل المشاريع السياسية الأخرى، مثل الاستعمار الاستيطاني، جوانب تقع خارج منظور الإنتاج والعمل. على سبيل المثال، تحتل طبقة عاملة من المستوطنين أراضي البرجوازية الفلسطينية التي تم إزالتها عرقيًا. فمن يقمع من في هذه الحالة؟
وأخيرًا، لم تعد بعض جوانب الاشتراكية الكلاسيكية ملائمة للواقع كما كانت في السابق. على سبيل المثال، تصنيع الزراعة يعني أن معظم ما علّمه ماركس فيما يتعلق بالمزارعين بوصفهم خارج ثنائية البورجوازية والعمال لم يعد صحيحًا. كما أن انتشار العاملين لحسابهم الخاص، وخاصة أولئك الذين يعملون عبر الإنترنت، يعني أن التحليلات التقليدية التي تركز على ملكية وسائل الإنتاج لم تعد صالحة، حيث أن وسائل الإنتاج (غالبًا ما تكون مجرد كمبيوتر محمول واتصال بالإنترنت) يمكن أن تكلف أقل من أجر أسبوع. ومن شأن الماركسية الكلاسيكية أن تعتبر مليارديرات مثل ليونيل ميسي من الطبقة العاملة، لأنه يبيع قيمة عمله. كما أن أدوات التحليل الكلاسيكية غير كافية للفهم الصحيح للإقطاع التكنولوجي، وهو نظام اقتصادي تعمل فيه شركات التكنولوجيا مثل الإقطاعيين المعاصرين: لا يمتلكون وسائل الإنتاج، بل يجعلون الشركات تدفع مقابل الحق في استخدام المساحات الإلكترونية التي يسيطرون عليها والتي تعتبر ضرورية لازدهار هذه الشركات. وأخيرًا، من المرجح أن يؤدي نمو وانتشار الذكاء الاصطناعي، الذي يحلّ محل عمل العمال، إلى تفاقم عدم أهمية الأدوات الاشتراكية الكلاسيكية.
يمكن تلخيص كل ما سبق في مفهومين أساسيين: أولاً، لا يمكن إصلاح الرأسمالية. فطالما يمكن تكديس رأس المال، سيحتكر الرأسماليون السلطة بغية السيطرة على المجتمع. الديمقراطية الحقيقية مرهونة إذن بهزيمة الرأسمالية. ثانيًا، لا يمكن للاشتراكية الكلاسيكية، ولا سيما العقائدية، أن تحدث تغييرًا جذريًا. وهذا يعني أنه يجب على الأفراد والمنظمات الثورية بناء القدرة على تحليل الديناميات التي تدعم الأنظمة السياسية القائمة، وإعداد خرائط طريق ثورية ملائمة للواقع، والانخراط في هذا العمل. وبناء هذه القدرة مشروطة بتبني منهاج يشمل كسب أولًا الأدوات التحليلية وثانيًا تطوير القدرة النقدية المطلوبة للبقاء على اتصال مع الواقع ومتغيراته.
على الرغم من أن النظام الرأسمالي أصبح راسخًا ومتجذّرًا في مجتمعاتنا وأنه تمكن حتى الآن من النجاة من كل تناقضاته، إلا أن العديد من الأزمات تنتظره في المستقبل القريب. قد تشمل هذه الأزمات إمكانية أن يحل الذكاء الاصطناعي محل العمالة البشرية، الاحتمال أن يفلت الذكاء الاصطناعي من السيطرة البشرية، المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، الأزمة البيئية، أوبئة الجديدة على شاكلة "كوفيد" وربما أشد قسوة منها، أو غيرها من الكوارث الطبيعية أو الكوارث من صنع الإنسان. عندئذ، قد تتمكن التنظيمات الثورية القادرة على تحليل وفهم ما يحدث والتي بنت القدرة على إقدام التأثير الحاسم في الواقع من تحويل مثل هذه الأزمات إلى فرص. لقد حان الوقت الآن لبناء مثل هذه التنظيمات. هذه دعوة للعمل.
*منسق في مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة