في الذكرى الـ 46 لاستشهاد كمال جنبلاط

تمرّ الذكرى السادسة والأربعون لاغتيال القائد والمفكّر كمال جنبلاط، وشعبنا وبلدنا يواجه ظروفاً شديدة القساوة. وهذا يؤكّد أنّ اغتيال جنبلاط في 16 آذار 1977 لم يكن مجرّد جريمة موصوفة، بل هو جريمة كبرى بحق الوطن والشعب. فقد استهدفت ضرب الحركة الوطنية وتحالفها المتقدّم لبنانياً وعربياً، وقطع الطريق على تحقيق برنامحها للإصلاح المرحلي، لاستبدال لبنان الدولة الطائفية وانقساماتها وحروبها، ببناء لبنان السيد العربي الديمقراطي العلماني الذي يوحّد لبنان واللبنانيين شعباً وهويةً وطنية عربية، ويرسّخ السلم الأهلي في ربوعه.

لقد كان هدف الاغتيال إعادة بناء الدولة على الأسس الطائفية والطبقية نفسها وإبقاء لبنان بتناقضاته البنيوية ساحةً مفتوحة لتدخلات الخارج وفي تبعيّة لمراكز الرأسمال العالمي. لذلك كان التضييق أيضاً مبكراً على الحزب الشيوعي ودوره الكبير والرائد في جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني، وكان اغتيال رموز ومفكّرين شيوعيين واستبعاد الحزب عن المشاركة في مؤتمرَي جنيف ولوزان، وبعدها في مؤتمر الطائف، وحصر المشاركة بممثلي الطوائف، استبعاداً لقضية الوطن والمصالح العامة الأساسية للشعب. ولم يكن ذلك بدون تواطؤ بين الدور الأميركي والاوصياء الاقليميين وزعامات الطوائف داخليا. وقد أعقب ذلك مصادرة إستقلالية الحركة النقابية وبخاصة قيادة الاتحاد العمالي العام وإضعاف الدور النضالي الشعبي، لتصبح يد الاحتكار والإستغلال طليقة، وفي ظل تناقضات وصراعات طائفية ومذهبية وتعميم الفساد ومنع محاسبة الفاسدين، وصولاً إلى الإنحطاط الأخلاقي والقيَمي واللامبالاة بقضايا الشعب والوطن والإنسان الذي أصبح في ظلّ مصادرة المصارف للودائع وسرقة المال العام وغياب الضمانات الاجتماعية، مهدداً في حياته وكرامته وعيشه اليومي.
لم يكن تكوُّن الحركة الوطنية بين ليلةٍ وضحاها. فقد ترافق مع تصاعد التحرّكات الشعبية الواسعة للعمّال والمعلّمين والطلاب والمستأجرين والمزارعين وجمهور الطبقة الوسطى، إلخ... وشكّلت هذه التحرّكات رداً على أزمة النظام بوجهَيه الاجتماعي والوطني. وجرى التلاقي والتعاون بداية في إطار لقاء الأحزاب والشخصيات الوطنية والتقدمية. ومع تطور الصراع السياسي وتفاقم الأزمات، إلى جانب تجربة العمل المشترك، تحوّل اللقاء في أواسط السبعينات إلى تحالف الحركة الوطنية. وإذا ما أدّت إعادة بناء النظام الطائفي المأزوم نفسه وزعامات الطوائف إلى مفاقمة الأزمات، وصولاً الى إنهيار وإفقار شعبنا وإذلاله، فإن الردّ الشعبي بتحرّكات جماهيرية متتالية وصلت إلى إنفجار إنتفاضة 17 تشرين الضخمة وغير المسبوقة. وإذا ما تعاملت أطراف الطبقة السلطوية وأحزابها ضدها باستخدامها الطائفية والمذهبية والضغوط والقمع السلطوي والميليشياوي، فإنها لم تستطع إخماد شعلتها. فتحلُّل الدولة يتواصل ويتمادى والانهيار يترافق مع إضراباتٍ واعتصاماتٍ تشمل معظم القطاعات، إن لم نقل كلّها.
إنّ إنعكاسات هذا الانهيار الأكثر قساوةً وخطورةً على شعبنا وبلدنا، تستدعي اليوم مجابهة شعبية فعلية وتوحيد قوى شعبنا للإنتقال من التعبير عن الغضب على الطبقة السلطوية ونظامها الطائفي في لقاءات ضيقة، إلى السير في تحقيق كتلة شعبية يتعاظم وزنها لإحداث تغيير في ميزان القوى، يفرض بديلاً حقيقياً عمّا هو قائم. والفارق الآن عن ما كانت عليه ظروف تشكُّل الحركة الوطنية سابقاً، هو أنّ أحزاب السلطة بما فيهم الذين يتّخذون بعض مواقف معارضة في بعض القضايا، لم يصلوا إلى اعتماد حلٍّ تغييري حقيقي بإلغاء الطائفية وبناء دولة ديمقراطية علمانية توحّد اللبنانيين وتبني وطناً، فالطابع الشامل للأزمات والإنهيار لم تعد كافية معه الحلول الجزئية التنفيسية. وفي وضعٍ كهذا بات تشكيل تحالف وجبهة تصل إلى تغيير في التوازنات السياسية يرتبط بالدرجة الأساسية لا بكتلٍ جاهزة عبر أحزاب سلطوية، بل بتلاقي مجموعات وهيئات شعبية سياسية ونقابية مستقلة، وشخصيات نيابية متجاوبة وروابط وشخصيات إجتماعية وثقافية ونقابية وشبابية. وطبيعيٌّ أن يستدعي هذا العمل جهداً ومثابرة، وأطراً مناطقية تجمع أوساطاً ثقافية وسياسية واجتماعية في مناطقها، خصوصاً في ظل الوضع الإجتماعي والمعيشي الصعب والكلفة العالية للإنتقال من المناطق إلى بيروت في ظل الفلتان وأسعار المحروقات العالية.
إنّ حالة الأزمات والانهيار تُظهر مدى صحّة وضرورة مواقف كمال جنبلاط والحركة الوطنية في العمل لإخراج لبنان من حالة البؤس والطريق المسدود. إنّ المشاركة في التحرّكات الشعبية اليوم باتت ضرورة وطنية وحياتية لكل مواطن. فالحلّ التغييري لا يُنتظر من الطبقة السلطوية التي أوصلت البلاد إلى الانهيار، ولا من استبدال رئيس جمهورية أو حكومة بآخر من الطبقة نفسها، بل يقترب الحل بقدر ما ينخرط الناس في التحرّك النضالي لصنعه. وهذا المسار هو الذي يمثّل الوفاء للشهيد كمال جنبلاط ولشهداء الحزب الشيوعي والحركة الوطنية ومقاومة الاحتلال، ويؤدّي بنا إلى بناء لبنان جديد سيّد عربي ديمقراطي علماني، نموذجاً لعروبة ديمقراطية علمانية منفتحة.
تحية لروح كمال جنبلاط في ذكرى استشهاده،
وتحية لشهداء النضال للتحرير والتغيير وبناء وطنٍ حرٍّ وشعب سعيد.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 413
`


موريس نهرا