مشروع"الشرق الأوسط الجديد" جرى تشريحه بكل تفاصيل أهدافه التكتيكية والاستراتيجية الطويلة. كمشروع استعماري للمنطقة، وبخارطة تقسيمية جديدة. كل الأطراف الدولية والاقليمية المعادية لهذا المشروع متفقة على خطورته، ومختلفة على توقيت وآليات مواجهته. فالكل له مصالح استراتيجية- ربما - قد تكون أبعد من قدرتنا على فهم تكتيكاتها وحساباتها. لكننا نفهم مسالة واحدة أننا في مواجهة مفتوحة ضد الحرب الأميركية والغربية والصهيونية مجتمعة على تغيير المعادلة لغير مصلحة القضية الفلسطينية ومصلحة تحرر شعوب المنطقة.
احياناً كثيرة، نجتهد لنقنع الآخرين بأن الاميركي يلعب ادواراً متعددة على مسرح الأحداث في العالم. مرة يلعب دور المحتل، ومرة دور المتدخل، ومرة دور الشريك كما يحصل في العدوان الصهيوني على غزة ولبنان، أو يلعب دوره كوسيط يدعي الحياد، أو الراعي الأمثل لاتفاقات "السلام" في المنطقة. وهي أدوار لا تغير من حقيقة أن الإمبريالية الأميركية هي أصل الإرهاب ومصدره، وأنها منبع الحروب والتطرف واللعب على الحبال، وأن مشروعها يهدف لإبادة الإنسانية جمعاء.
ونجتهد أكثر، حين نحاول ربط مسألة التحرر الوطني بالاجتماعي في منطقتنا. كون الصراع وطني تحرري وطبقي بامتياز. وكون الإمبريالي يجيد لعب شخصياته بإتقان لدرايته العميقة بتضاريس وفجوات وعلل أنظمة المناصب والمكاسب، وسادة التواطؤ والخيانة والفساد. ويعلم مدى ذكاء التلامذة النجباء في القدرة على تنفيذ مهمة ملاحقة وتخوين قوى حركة التحرر الوطني العربية والقضاء عليهم خوفاً من اشتداد عودهم وتوسع حاضنتهم الشعبية، حتى لا تقوم لهم قائمة في تظهير وتأطير مشروع حركة التحرر الوطني العربية.
وهذا لا يعني بالمطلق، أن الاميركي غفل للحظة واحدة عن مجرى المتغيرات الملموسة الحاصلة في المنطقة لغير مصلحته. ولتقدم المحاور الإقليمية والدولية الوازنة التي بدورها آخذه في التشكل خلال العقود الماضية أو أنه استسلم بسهولة لضربات المقاومة في المنطقة وحجمها وقوتها وإرادتها التي استطاعت حقيقة فرملة تقدم مشروعه، في محطات وأماكن في مختلفة ، من أفغانستان إلى العراق وسوريا وفلسطين ولبنان واليمن وإيران..
مشروع الشرق الأوسط الجديد خطير جداً، والاميركي سيبقي المنطقة داخل دائرة جحيم الحروب والصراعات والدمار والخراب والتفتيت. طالما هو قادر على ذلك. وما يفعله ويقدمه الأميركي للكيان الصهيوني في كل مراحل الصراع الفلسطيني والعربي– الصهيوني ليس بجديد أو سري. فالصهيونية هي نتاج الإمبريالية الاستعمارية ويمثل الكيان قاعدته العسكرية المتقدمة في فلسطين المحتلة.
ولهذا الكيان الاستيطاني التوسعي العنصري وظيفة وأهداف استعمارية، وهو في كل مرحلة من مراحل الصراع يقوم بوظيفته العدوانية المرسومة، ويوسع من اعتداءاته وحروبه الموكلة اليه، بما فيها حرب الإبادة الجماعية منذ سنة على غزة والضفة ثم لبنان. أما في الجهة المعادية للإمبريالية والصهيونية، والمفترض أنها داعمة للقضية الفلسطينية ولمقاومتها ولجبهات الاسناد والدعم، فلم تتلقى بالملوس سوى بيانات الدعم المعنوي، أو بيانات الاستنكار والإدانة أو الدعوات للتعقل ونبذ العنف وإعطاء الفرص للدبلوماسية الأميركية (شريكة العدوان) للبحث عن مسودات لحلول "مطاطية" غير مفهومة، لكن يفهم منها إعطاء الضوء الأخضر للعدو الصهيوني للمضي قدما في دعمه وحمايته وتغطيته لجرائم حرب الإبادة الجماعية ومسلسل القتل والاغتيال والتدمير وتشديد الحصار على غزة. وفيما شعوب العالم تعبر عن مواقفها السياسية والإنسانية الداعمة للحقوق الفلسطينية، كانت الدول العربية والإقليمية والدولية عاجزة عن اتخاذ قرار مادي ملموس واحد من شأنه كسر فيتو القرار الأميركي وإنقاذ طفل واحد في غزة. وبنتيجة هذا التواطؤ أو الصمت أو العجز أو الحسابات الاستراتيجية، أقدم العدو الصهيوني وكأنه "شرب حليب السباع" على توسيع حربه على جبهة لبنان بحجة إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة بأمان.
وها هو العالم يتابع الاحداث بقلق ويحذر من مغبة إندلاع حرب إقليمية واسعة في الشرق الاوسط. وكأن الحرب على فلسطين ولبنان، واستهداف سوريا وايران واليمن والعراق ليست بحرب إقليمية موسعة. أو كأن تصفية المقاومة والقضية الفلسطينية وشطب حقوق الشعب وتجهيره لا تعني سوى الفلسطينيين والمقاومين الواقفين إلى جانب القضية الأساس في المنطقة. أو كأن العدوان الاميركي – الصهيوني على لبنان وشعبه ومقاومته لا يعني أيضا سوى شعب لبنان ومقاومته. اليست فلسطين ولبنان في قلب المنطقة العربية ام أن المصالح الاستراتيجية لتوسع الحرب الشاملة في المنطقة في مكان آخر.
أخر مقالع المقاومة في المنطقة، ستبقى تقاوم في غزة والضفة ولبنان، رغم كل المجازر والغارات والاغتيالات الوحشية بحق رموز المقاومة في لبنان وفلسطين وآخرها استشهاد يحي السنوار وهو يقاوم من داخل أرضه كطود مارد يدافع عن أهله وشعبه وأرضه وحقوقه. وهو نموذج من النماذج المقاومة التي لا تعرف الانكسار أو الهزيمة. وهذا هو تاريخ المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية على امتداد مراحل الصراع ضد المحتل الصهيوني. وهو خيار وقرار له أثمان. والثمن يدفع بكرامة وعزة وقوة وصلابة، وبثبات وإرادة في لبنان وجنوبه المقاوم، وفي غزة والضفة. وهو خيار لا يعرفه سوى الاحرار والشرفاء والثوار في العالم. وهو خيار الانتصار حتما، لإنه خيار الشعوب المقهورة والمضطهدة في العالم.
المواجهة تشتد، لكنها تتطلب وعياً ويقظة ثورية وطنية. فالعدو الصهيوني يستمتيت لتحقيق خرق أو تقدم على جبهات الجنوب المقاوم، أو محاولة خرقنا في الداخل، أو تفتيت وحدتنا الوطنية في مواجهته عبر النفخ على آلة الطائفية والمذهبية.
ما يستدعي جدياً، تحصين قدراتنا الدفاعية والهجومية، ورسم خطة وطنية استراتيجية للصمود والمقاومة تتكامل في صد العدوان الوحشي الذي يستهدف لبنان وشعبه ومقاومته وقراره الوطني. ولا شيء يترجم هذه الخطة سوى معادلة الميدان.
وهو الميدان الذي سيضعنا وفق موازين القوة أو الضعف في دائرة الاهتمام الدولي، أما أن نستطيع أن نفرض شروطنا عليه، أو يستطيع أن يفرض شروطه علينا. هي ليست المواجهة الأولى مع العدو الصهيوني، لقد خبرناه طويلاً، وهو خبر قدراتنا وإرادة شعبنا ومقاومتنا منذ عام 1982، ويعرف أن هزيمته ستتكرر في لبنان بنفس الصلابة والإرادة والعزيمة.
ولن يسمح لبنان بقواه الوطنية ومقاومته وصمود شعبه أن يكون مقراً أو ممرأ لمشروع "الشرق الاوسط الامبريالي الجديد"، بل مقبرة له.
فلبنان الوطني العربي المقاوم، سيبقى، على عهده ووفائه لشهداء المقاومة والنضال والتحرر الوطني. لإن المقاومة في مفهومنا الوطني وجدت لتنتصر لا لتنكسر.
وجدت المقاومة لتنتصر
الأميركي يتصرف بحزم وقوة رادعة في المنطقة، ويعمل وفق منهجيات تكتيكية أحياناً لتكريس وحدانية سيطرته وهيمنته على الشرق الأوسط الجديد. وهذه مضامين حروبه التي لم تتغير بأهدافها، رغم المتغيرات الجارية على المستوى الدولي، ورغم تعمق أزمته، ورغم فتحه جبهات مواجهة ضد روسيا والصين وإيران. يعني، الأميركي يدير لعبة الحرب والسلم لحد الآن، ويعدل أجندة أولوياته تبعاً لأهدافه، ويتحين الفرص لتصفية حساباته مع خصومه ومعارضيه مرة بالأصالة عن نفسه، ومرة بإدارة حروبه بالوكالة كما هي الحرب المفتوحة على غزة ولبنان.
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.