انفجار بحجم الفساد ومتاعبنا

 لم يكن اليوم الرابع من آب يوماً عادياً في عملي الصحفي، لم يكن اتصالاً لتغطية مصوّرة كما جرت العادة في الأشهر والسنوات الماضية عند كل خضّة في لبنان، كالتظاهرات او الانفجارات الإرهابية أو غيرها، بل رأيت منزلاً بحجم عاصمة تهشّم وسقطت أعمدته من انفجار كان بحجم فساد الحكومات المتعاقبة التي انتفض الشعب ضدها في ١٧ تشرين الاول.
انفجرت بيروت، ووجدت نفسي متجهاً بشكل سريع إلى موقع الجريمة، وتعذّر عليّ الوصول إليه بسبب زحمة السيارات على جسر شارل الحلو، فلجأت إلى الطرق الفرعية في الكرنتينا التي تغيّرت ملامحها كلياً. لم يبق فيها سوى جرحى ينقلون الجثث. غبارٌ يغطي ما تبقى من ذكريات في لوحات تتدلى عن جدران باتت مكشوفة للشارع، فترى صور عائلية، فنانين، لوحات بالأبيض والأسود وأخرى ملوّنة بالألوان الزيتية، ويتخلّل كل هذه المشاهد أصوات سيارات الإسعاف عن بعد وناس تصرخ "هنا جثة" أو بكاء رجل أمام منزله الذي أصبح تلّة من الحجارة.


خمّنت أن شوارع بيروت ستكون مزدحمة بشكل كبير، فتوجّهت إلى أقرب مستشفى علماً أن عدد كبير منها قد أصبح خارج عن الخدمة. فوقع الخيار على مستشفى "أوتيل ديو" في الأشرفية. ركنت سيارتي في الشوارع الداخلية قرب المستشفى ومشيت صوبها، وعلى الطريق يمشي خلفي وأمامي جرحى الانفجار. رجلٌ عجوز يضع ملابسه الداخلية على رأسه بعد أن أصيب بقطعة زجاج من نافذته.. جدّة طاعنة في السنّ تمشي ببطء من الصدمة وثوبها المزركش تكسوه بقع الدم من جسدها النحيل وتساعدها حفيدتها الفتيّة على المشي على الرصيف باتجاه قسم الطوارئ في المستشفى.. ثلاثة شبّان خلفي يساعدون بعضهم البعض والدماء تغطي لحاهم وملابسهم.. وهم الذين أتوا من إحدى مقاهي ساحة ساسين التي تدمّرت كل الواجهات الزجاجية فيها.
قلت للحارس على مدخل المستشفى إنني صحافي، فأدخلني وركضت خلف فوج من الناس يهرعون باتجاه أحد المداخل، تبيّن أنه مدخل المستشفى الرئيسي وليس الطوارئ، وكلّ هؤلاء الناس يسعون للتبرّع بالدم، ومنهم حبيبتي، وأشخاص آخرين، ممن التقيت، جاؤوا من شتّى المناطق كالضاحية، الناعمة، الشويفات، الأوزاعي، وعاليه. بعد ذلك، توجهت إلى مدخل الطوارئ واتضحّ لي هول الكارثة من وجوه كل الناس، من شتّى الأعراق والأجناس، الباكية بدموع تختلط مع الدماء. لم أستطع حينها حبس دموعي على هول المنظر رغم استمراري بتأديتي واجبي الصحفي، وتذكير نفسي بأخلاقيات المهنة في هكذا أوقات.
ربما سرد كل ما رأيت أمام باب الطوارئ في أوتيل ديو يتطلّب ساعات من الكتابة. رأيت رجلاً أصلعاً كبير السن، التقط وجهه كلّ وسائل الاعلام الموجودة في المستشفى ويده كانت ترتجف من الصدمة وعينه اليسرى كانت حمراء اللون وجسده يكسوه الشظايا. وشاهدت شاباً تمّ نقله بواسطة ال chaise longue بسبب عدم توّفر أسرّة نقّألة بما يكفي في المستشفى. وهناك السيدة العجوز التي أتوا بها بسيارة مدنية من تحت الأنقاض في الجميزة وهي مرعوبة وتبكي. وهناك العائلة السورية التي لم يسلم أي من أفرادها من الجروح. وتلك الفتاة الأثيوبية التي جلست على كرسي وعلى رأسها ضماّدة كبيرة وهي تدعو لربّها بذعر ورعشة. أمّا ذاك الشاب الذي يتحدّر من الجنسية البنغالية، فشاهدته يحمل كيس المصل مساعداً صديقه المستلقي على الأرض. هذه المشاهد كانت من أكبر الغصّات في حياتي. أذكر تفاصيلها بدقّة. لا يزال صوت السيدة التي صرخت من داخل مبنى الطوارئ "أمّي" محفوراً في ذاكرتي السمعية. هذه السيدة فقدت والدتها خلال الانفجار. في لحظة واحدة، صمت العالم كله لديّ، لم يبقَ في الدنيا سوى صوت تلك الامرأة تناشد لإنقاذ أمها المتوفاة. تخايلتها أمي وانا أصرخ مناشداً لإنقاذها دون أمل. تلك الامرأة نحن، وأمها أمنا. نحن الذين فقدنا أنفسنا عند الساعة السادسة وثماني دقائق من عصر الرابع من آب.
كانت تلك أطول ليلة مرّت عليّ مؤخراً، انتهيت من التغطية عند الثانية فجراً، وحاولت النوم، ولكن دون جدوى، وكان هذا الحال سيّان في كل ليلة أحاول فيها النوم على مدى 18 يوماً بعد الانفجار. وعلمت أكثر لماذا تُسمى مهنة الصحافة "مهنة المتاعب" وأنها إحدى أكثر المهن المتعبة نفسياً للإنسان.
في الخامس من آب، بدأت جولتي من موقع التفجير، حيث تسللت خلف عناصر الجيش لأصل إلى أقرب نقطة مطّلة على المرفأ، ووجدت مبنىً عالياً أسود اللون، كان فيه بعض العمال يتفقدون مكاتبهم، فصعدت إلى الطابق الأخير وبدأت أصور، وأتخايل كل تلك الأصوات التي سمعتها من اليوم السابق أمام مشهد الفوّهة التي خلّفتها نيترات الأمونيوم وحائط السد المهشّم الذي شكّلته اهراءات القمح وعناصر الدفاع المدني الذين يعملون منذ اليوم الاول على إخماد النيران المتبقية والبحث عن المفقودين والجثامين. هم ذاتهم التي ماطلت الحكومات المتعاقبة عن تثبيتهم ودفع الاجور لهم، ولكنهم لا يتوانون عن الحضور سريعاً لإنقاذنا عند كل كارثة. نزلت من المبنى واتجهت إلى مدخل المرفأ، وجدت مجموعة من الناس تقف أمام كتيبة كبيرة من الجيش، سألت أحدهم من أنتم ولماذا أنتم هنا؟ ردّ عليّ قائلاً "لوين بدي روح؟ انا بشتغل هون مياوم، خيّي جوا ما عارفين وينه، يمكن طار عالبحر غرق. رفقاتي مفقودين جوا كمان، بدنا نفوت نساعد نفتش عليهم ما عم يخلونا.. لوين بدي روح واترك خيّي؟" لحظّة "حزّت بقلبي" لأني خسرت أخي أيضاً منذ تسع سنوات في البحر وأعلم جيداً صعوبة هذا الجرح الذي لا يلتئم بسهولة.. هذا إن التئم.
لاحقاً، ذهبت إلى ساحة الشهداء لأبدأ جولتي في المناطق المدمرّة، من وسط بيروت إلى الجميزة فمار مخايل والكرنتينا والأشرفية. وكان لافتاً بالنسبة إليّ أن في ساحة الشهداء مجموعة من الشبّان والشّابات يجمعون علب الأدوية والمكانس والمواد الغذائية عند الساعة الـ11 صباحاً وتحت حرارة الشمس، لمساعدة العائلات المتضررة. أعاد لي هذا المشهد بعضاً من الامل الذي فقدته وبرهن لي أنّ التضامن الإنساني لا يزال ينبض في قلب المدينة والتي غابت الدولة عنها بكافة أذرعتها. مع نهاية جولة اليوم الثاني، كانت أكثر القصص التي لفتتني هي من الأشرفية لشاب يدعى سامي، يجلس دوماً في ساحة ساسين أمام كشك الجرائد مع صديقه. روى لي سامي ما حصل معه لحظة الانفجار عندما كان يحلق شعره في مار مخايل، وكيف نجاه الله من الموت وسقوط الزجاج عليه. بيد أنه قال لي "جيت لهون من الساعة 9 الصبح (كانت الساعة 2 ظهراً) ناطر صاحبي الي بضل انا وياه نعمل صبحية هون سوا، بعده مش مبيّن. وهيدا بيته بمار مخايل، صرلي من الصبح قلقان عليه وما عارف شي عنه لأن تلفوني ضاع عند الحلاق وكل المحل واقع. كل شوي بفوت عند الدكنجي بشوف شو في أخبار، بركي طلع اسمه بين الناس المفقودة."
وتوالت الأيام، وأصبحت قصص مآسي الناس شيء يومي منذ الانفجار: أم فقدت ابنها، ابن فقد امه، فتاة فقدت خطيبها، وعائلة تشردت، ايادٍ بيضاء قدمت يد العون ككريستوفر نادر الذي فتح أبواب فندقيّه الاثنين للعائلات المشردة وعناصر الاسعاف، أو شبان قادمين من المنية وطرابلس وعكار لتنظيف مدينتهم بيروت ومساعدة أهلهم وفتح منازلهم لكل من يبحث عن مأوى، كما قالوا لي وهم ينظفون الركام عن جسر شارل الحلو. ويم السبت في ٨ آب، خرجت التظاهرات. قمعٌ رهيب، عنفٌ مفرط، استخدام غير قانوني للرصاص المطاطي والخردق، دخانٌ مسيّل للدموع يغطي وسط بيروت بقدر ما غطّت غيمة الغبار لحظة الانفجار، وغضبّ شعبي يجتاح الساحة. لكن هذا الغضب استمرّ ليومين فقط دون نتيجة. كانت أعنف تظاهرة أشهدها وأغطيها منذ بداية مسيرتي المهنية عام ٢٠١٣.
أمضيت بعملي الصحافي كالمعتاد. لم تنتهِ الأمور عند لحظة الانفجار فتداعياته كانت أكبر. المواطنون أكملوا حياتهم اليومية كما كانت قبل الانفجار، المناكفات السياسية عادت لتحتلّ المشهد الإعلامي، الجمعيات الاهلية تحلّ مكان الدولة، فيما الدولة تبحث عن حكومة لها!
بعد ثلاث أسابيع على الانفجار، لا زالت تخرج قصص أخرى تدمي القلب لأن معظم المتضررين هم من العمّال ذات الدخل المحدود. الأسبوع الماضي، كان عامل بنغالي الجنسية يجلس على الرصيف بجانبه كيس نوم، وقال لي أنه فقد منزله ومات بعض زملائه في السكن، وهو كان يعمل في قسم التنظيفات في شركة مطلّة على المرفأ. طلب مني بعض الماء ليروي ظمأه. كان يخشى أن طلب هذا الامر من الجمعيات خوفاً من العنصرية التي قد تحرمه من المساعدات كما فعلت جمعيات أخرى ولم يجرؤ على طلب المساعدة من مختار المحلّة اذ أن المخاتير يوزعون الحصص القادمة من الجمعيات على أحزاب المنطقة. أعطيته حاجته لكي يسيّر أموره.
لم أتضرّر من الانفجار مباشرة، لم أخسر عملي أو منزلي أو قطعة من جسدي بل خسرت جزءاً من روحي. وهذا ما يؤرقني. ثمة شعور بالندم لا يفارقني. انّه ذاك الإحساس بأن عليّ أن أقدّم المزيد للجميع، كي أتخلّص – على الاقلّ- من عقدة الذنب أني لا زلت حيّاً. ربما يكون هذا الإحساس جزء من عوارض الصدمة والتي أصبنا بها جميعنا. انه اضطراب ما بعد الصدمة.