إنّ جوهر الإصلاحات التي أدخلت في الدستور بعد توقيع اتفاق الطائف عام ١٩٨٩ كان ترمي الى إرساء أسس الدولة المدنية، أو على الاقلّ دولة القانون والمؤسسات الموعودة. وفي هذا السياق، أتت المادة ٢٢ من الدستور والتي جاء فيها: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية." أمّا المادة ٢٤ من النصّ الدستوري المعدّل في الطائف، نصّت على التالي: " يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفية انتخابهم وفقاً لقوانين المرعية الاجراء. والى أن يضع مجلس النوّاب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع المقاعد النيابية وفقاً للآتي: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، نسبياً بين طوائف كل من الفئتين، ونسبياً بين المناطق." الدستور اللبناني أيضاً كان قد وضع نصب عينيه هدف الغاء الطائفية بدليل أنّ الفقرة " ج " من مقدمته نصّت حرفياً على التالي: " أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني يقتضي العمل لتحقيقه وفق خطة مرحليّة»، وعلى هذا النحو جاءت الحلول الإصلاحية للصبغة الطائفية اللبنانية، بعد تعديل المادة 95 من الدستور من خلال فقرتين: الفقرة الأولى: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية....».الفقرة الثانية: «تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة».
إذاً، هل التحول إلى الدولة المدنية يكون بهذه البساطة؟ ففي الآونة الأخيرة يكاد لا يمرّ يوم من دون أن يدعو الفرقاء السياسيين – وللمفارقة أنّ جزءاً منهم كان أمراء الحرب الاهلية- الى الدولة المدنية. للوهلة الأولى يغلب القلب العقل، فهم ومن خلال تبنيهم لشعار " الدولة المدنية" يبدون وكأنهم يسوقون لمطلب شعبي مزمن في بلدنا وذلك " حفظاً لماء الوجه". وللتوضيح، فإنّ الدستور اللبناني المعمول به حالياً لم ينصّ على " طوائف" الرئاسات الثلاث، بل كان هذا عرفاً شفهياً ضمن اتفاق جرى بين أوّل رئيس للحكومة اللبنانية (رياض الصلح) وأوّل رئيس للجمهورية (بشارة الخوري) بعد نيل لبنان استقلال عام ١٩٤٣، وتكرّس هذا الامر كعرف ساد في جميع مراحل الحياة السياسية اللبنانية بعد الاستقلال. اذاً، لم تكن من مصلحة أحد من الساسة اللبنانيين الذهاب نحو الغاء الطائفية من النظام واستبدالها بنظام مدني آخر. فكان أن نتج عن هذا الامر تجذّر ونموّ للفساد والذي طال بتأثيراته جميع مفاصل الدولة من السياسة إلى الإدارة فالقضاء والتعليم والامن حتى وصل أيضاً الى القطاع الخاص.
واحدة من المواضيع الإشكالية التي لا زالت تعرقل قيام الدولة المدنية قوانين الأحوال الشخصية والتي تتجذّر فيها الطائفية جاعلةً من النظم والقوانين أن تكون تحت مشيئة السلطات الروحية في بلدنا. على سبيل المثال، ينأى المشترع والقضاء المدني بنفسيهما عن كلّ ما له علاقة بالأحوال الشخصيّة للمواطنين والمواطنات تاركين الفصل فيها للمحاكم الدينيّة. عوض الحكم باسم الشعب اللبناني، تصدر الأحكام باسم الطوائف، ويكرّس الغبن باعتباره مُنزلاً من الله، فاللبناني يكتسب هويتين الأولى: هوية المواطن اللبناني، والثانية: هوية الطائفة والملّة، وهناك 18 طائفة معترف فيها. انّ وجود قوانين أحوال شخصية متعددة يلجأ اليها المواطن اللبناني ما هو الاّ تكريس لثقافة التمييز في الحقوق بين طائفة وأحرى، خاصة لناحية الاحكام المتعلقة في الزواج والطلاق والميراث وسنّ الحضانة. هذه الامور لا تختلف فقط بين الطائفتين المسلمة والمسيحية، بل تختلف اختلافاً جذرياً بين مذاهب هذه الطوائف أيضاً.
صحيح أنّ اللبناني إن تحدثت معه، يعبّر لك عن إعجابه بتطبيق الدولة المدنية في الدول الغربية، ولكن لا أعتقد أن ذلك سيتحقق في القريب طالما ليس هناك ثورة حقيقية تغذّي تَوْق الناس للحرية والديمقراطية، وتحاكي الوعي الوطني. انّ التأسيس لقيام الدولة المدنية ينبغي أن يكون من خلال زرع الأرضية المناسبة لهذا الطرح. المؤسسات الاكاديمية معنية أكثر من غيرها ربما بإعداد مناهج تعزّز ثقافة المواطنة والحقوق. والمنظمات الجماهيرية مسؤوليتها أن تقوم بمهام التوعية على مفاهيم المساءلة والمحاسبة والديمقراطية وثقافة حقوق الانسان. والقوى السياسية مسؤوليتها نبذ أي خطاب طائفي أو عنصري، وتجاوز القيود التعصبية الداخلية، والتخلي عن المحاور الإقليمية.
في الخلاصة، انّ التحول إلى الدولة المدنية يحتاج الى أحزاب سياسية حقيقية تؤمن بسيادة الدولة، وهناك الكثير منها خارج السلطة، لذلك فهي ليست قادرة اليوم على تغيير النظام الطائفي. انّ هذا التغيير يحتاج إلى توازنات وقوى شعبية لها قياداتها الفعلية. لذلك، فإنّ انتفاضة ١٧تشرين الشعبية هي الخطوة الأساسية في رحلة الألف ميل للقضاء على نظام طائفي متلوّن يستخدم كل الشعارات الديمقراطية الحديثة وهو براء منها. وإذا كان حلم اللبنانيين يتجلّى بالدولة المدنية، فما عليهم إلّا الاستمرار بانتفاضة ١٧ تشرين وتصعيدها لتتحوّل الى ثورة تهدم النظام الطائفي وتعيد تشكيل المشهد السياسي بما يتناسب مع أحلامهم وتطلعاتهم.