أكتب رسالةً لشخصٍ واحد، أذهب إلى صندوق البريد، أستثمر جهداً، وقتاً ومالاً في مغلّفٍ ورقيٍّ ليقرأه صاحبه. أمّا اليوم، فتصلني مئات الرّسائل إلى بريدي الالكتروني، أغلبها – إن لم تكن جميعها – هي إعلانات أو رسائل تلقائيّة من مواقع الكترونيّة. قطعاً لا شيءَ فيها موجّهٌ إليَّ على المستوى الشخصيّ. في بعض الأيّام لا يصلني أيّ بريد، أتصفّح البريد غير الهام (junk mailbox) على سبيل التسويّة.
في إحدى المرّات، استوقفتني رسالة من نادي خريجي الجامعة، تدعوني إلى مشاركة إنجازاتي الأخيرة لنشرها في مجلّة الجامعة. هي رسالة أخرى موجّهة لكلّ الخريجين، لكنّها فرصة لإبراز إنجازات ما. أذكر هذا الباب في المجلّة. فلان (خرّيج العام كذا) حاز على درجة الدّكتوراه من جامعة ما في الولايات المتّحدة الأميركيّة. فلانة (خريجة العام كذا) أصبحت مديرة قسم في شركة. فلان وفلانة (خريجون من العامين كذا وكذا) تزوّجا...!! وقِسْ على ذلك. يشبه البابَ تأكيداً على قيم مجتمعنا التي تبجّل المظاهر، وتنبذ المضمون.
إذا فكّرت من منطلق الإنجازات التي تُعرض في باب المجلّة، أنا خالية الوفاض – لا شهادة جديدة، لا ترقية، لا زواج، لا ولد. ممتنّة أنّني من منطلق شخصيّ أُقارب الموضوع بشكلٍ مختلف. لكنّني أتساءل في نفسي، لم لا يكون هناك بابٌ موازٍ في المجلّة أو غيرها لإنجازات من نوع آخر...؟ على سبيل المثال، فلان توفّيت زوجته في حادث لكنّه يقوم بعمل بطوليّ كأبٍّ وأمٍّ لثلاثة أطفال، فلانة بدأت دراسة الفنون بعد التخرّج لأنّها اكتشفت أن شغفها هو في ذلك المجال، فلانة تعرّضت لتحرّش جنسيّ في العمل وتجرّأت للتّبليغ عن الحادثة برغم التابو الاجتماعي، فلان عانى من اكتئاب مزمن لكنّه تعالج وتماثل الآن للشّفاء، فلانة اختارت أن ترعى والديها المقعدين على السّفر لاستكمال دراسة الدكتوراه على رغم حصولها على منحة... وقس على ذلك...؟ إنّ الأشخاص الذين يندرجون ضمن هذا الباب الموازي موجودون في مجتمعنا، وبكثرة، لكنّنا لا نكرّس إلّا الإنجازات الورقيّة، الّتي يكون فيها شهادة جامعيّة أو وثيقة زواج أو ولادة، أو ورقة ترقية.
إنّ تعريف الإنجاز في مجتمعنا مفهوم محدود جداً، وماديّ أيضاً. لا قيمة فيه للإنجازات المعنويّة، على أهميّتها. القيم التي يكرّسها باب الإنجازات هي قيم رأسماليّة بحتة، تعترف فقط بإنجازات من هم ضمن منظومة معيّنة.
المقالة الثانية: جنان خشوف
أزمة منتصف العمر...!!
في العام 1976، ظهر مصطلح أزمة منتصف العمر في كتاب "the seasons of a man’s life"، والذي كرّس فكرة البحث الطبي العصبي... أنّنا نمرّ بدورة حياتية تبدأ بالإثارة وتنتهي بالملل كلّ سبع سنوات (ربما أكثر أو أقلّ من ذلك بعامين) ... وتتكرّر الدورات طوال حياتنا. تتابعت البحوث بعدها لتكريس هذه الفكرة، فكرة أننا نعيش سلسلة من الدورات، وأن ظروف حياتنا تقلّل أو تزيد سنوات الدورة الواحدة ولكنها لا تلغي نهائياً حاجتنا لإعادة النظر، وإعادة التجارب والتفكّر والتأمّل بما نريده. عندما قرأت هذا البحث راودني شعور مفاجئ بأن كلّ ما علّموني إيّاه خاطئ، تقتضي الضغوطات الاجتماعية على كلٍّ منّا اختيارَ مسارٍ مهنيٍّ معين والالتزام به للتدرّج والتميّز، الزواج الواحد والوحيد طويل الأمد، عدم إعادة النظر بالمُسلّمات التي ربما اكتسبتَها كمسلمات خلال مراهقتك ويجب أن تناسبك في سنين كهولتك... إن أي محاولة لإعادة النظر بأيٍّ من النقاط أعلاه أو جميعها أو غيرها "تبوّبك" إما بقلّة الالتزام أو بالأنانية، ويرافقك شعور دائم بالذنب والقلق. إن معدّل استمرار موظّف عالمياً في وظيفة هو 1.5-2 سنة، فيما في لبنان إن استمرَرْتَ بتغيير الوظائف قتلت فرصك بالتوظيف لأنك تفتقر للاستقرار... إنّ متوسط عدد سنين الزواج عالمياً هو 8.2 سنة، هل نحن حتى بأفق هذه النسبة، حيث فكرة أن الزواج للأبد متشبعة فينا...!! ما يهمٌّ هنا أن الدراسات تقول وتكرّس النقاط الأساسية أدناه:
• إنّ مبدأ أن حياتنا سلسلة من الدورات حتمي، ولا علاقة له بأنانيتنا أو تطوّرنا أو جيناتنا أو أو.... غير الحتمي هو طريقة مقاربتنا لانتهاء دورتنا وأماننا الجميل، وشجاعتنا وإرادتنا للإقبال على دورة جديدة.
• إنّ تجاهل ساعتنا البيولوجية التي قرّرت أن تجربتنا السابقة لم تعد كافية، والاختباء وراء " واجبنا الأزليّ للالتزام" فقط يخلق صراعاً داخلياً ما بين "قيمنا الجديدة"، وممارساتنا القديمة، والذي بدوره يجعلنا ننفّس عن هذه الازدواجية بتصرفات خرقاء كالخيانة والإدمان على الشراء، والغرق في منطقة الأمان والرياضات الخطرة ووو.
• إنّ أساسيات القيادة، تقتضي أن نعيد النظر، بكلّ شيء، ليس القيادة فحسب بل أيّ مقرّر - تعليم إداري أو تنظيمي يذكّر ويؤكّد على ضرورة "الرصد والتقييم" بشكل شبه دائم، فلم ننسَ كلّ هذه المعايير عندما يتعلّق الموضوع بأهمّ ما نملك "حياتنا". أساسيات القيادة تحتّم إعادة التقييم حتى قبل ظهور عوارض انتهاء دورتك الحياتية من شعور بالملل وعدم الانتماء وعدم الكفاءة....
اذاً، من غير العادل أن نعيش بخواء، أو ونحن نتساءل يومياً " هل هذه هي الحياة"...؟ فقط من أجل أن يتمّ تقبّلنا اجتماعياً، من غير المنطقي ألّا نتطوّر عاطفياً وأخلاقياً وروحياً لسنين طوال بحيث يكفينا الآن ما كان يكفينا من 20 سنة على صفوف الدراسة. من الكفر بحق أن نصبح أهلاً غير مسؤولين لو قرّرنا تبديل مسارنا الوظيفي أو الدخول في مغامرة ريادة الأعمال. ومن الغباء أن يكون اختلاف القيم الحياتية بين الشريكين سبباً غير كافٍ للطلاق أو الانفصال.
أذكر أنه ومنذ حوالي عشر سنوات، أصيب قريبي بمرض هدّد حياته بقوّة، وقد كان في سنته الأخيرة من دراسة الطبّ...!! بعد أن استرجع عافيته قرّر أن يكمل حياته في تعديل وبيع الدراجات النارية...!! للحقيقة أن الناس فهمت وقدّرت حاجته لّلحاق بحلمه لأنه كان على وشك الموت، وتقبّل أهله الموضوع بسلاسة فقط لأنه عائد من الموت ويحق له الاستمتاع بما تبقّى بعد تجربته المريرة... لماذا الانتقائية في تفّهم حاجات الآخرين...؟ أليس وقتنا جميعاً محدوداً...؟ أليست تجاربنا جميعاً شديدة الدرامية بالنسبة إلينا...؟ ألا نستحق جميعاً العيش، ربما أقلّ نجاحاً بالمفهوم العام، ولكن أكثر سعادة بالمفهوم الخاص...؟
مقابلة مع المعالج النفسي إيلي غزال
س: كم تمثّل الأطر الاجتماعية ضغطاً على الفرد للامتثال...؟ وكيف يستطيع الفرد مواجهة هذه الضغوطات عند الضرورة، وكيف نعلّم الأولاد على تقبل الاختلاف...؟ هل نشعر بأهميتنا حصراً من خلال نظرة الآخرين لنا أو من الممكن أن يكون منظورنا لأنفسنا داخلي وفردي...؟
ج: بحسب نظرية سيجموند فرويد، إن لشخصية الإنسان أنظمةٌ ثلاث: الهو، والأنا، والأنا العليا. إنّ الشخصَ السويَّ والصحيَّ نفسياً هو الفرد الذي يؤمّن التوازن بينها.
أما الأنظمة مبسّطة فهي:
● الهو: وهو ما يتحكّم بدوافعنا ورغباتنا وميولنا، وهو الجزء من اللاوعي الباحث عن اللذة والمتعة. الهو لا يأبه بالعواقب. عندما يكون الهو مسيطراً، يصبح الإنسان متفلّتاً متهوّراً، يمثّل خطراً على نفسه والآخرين.
● الأنا: وهو نفسنا المنطقية العاقلة والتي تحكم تعاملاتنا اليومية، الأنا هو المسؤول عن خلق توازن بين المتعة والألم ، مع معرفة الأنا أن بحثَ الهو عن المتعة واللذة لا يتوقف.
● الأنا العليا: وهي الضمير والمثاليات والأطر الإجتماعية المتحفّظة والتقييد بالقوانين والدين، وكلّ ما هو "مطلوب منّا اجتماعياً. بدون الأنا العليا سيتصرّف الناس بتفلّت وعنف وعدوانية، ولن يستطيعوا التفرقة بين الصح والخطأ.
عندما تكون الأنا العليا مسيطرة بقوة يصبح الإنسان موسوساً، قاسيّاً وغير مرن، قليل السعادة، وساعياً للكمال.
لشرح ذلك بشكل أبسط، الأنا، في المنتصف بين صراع الهو والأنا العليا، وأي غلبة لأي قطب من هذين القطبين ينهك الأنا ويحرفه عن طبيعته الوسطية.
بعد هذا الشرح النظري، لنسقط هذه النظرية على مثالنا هذا، نحن (حيوانات - اجتماعيون)، ولا نستطيع العيش خارج الضوابط الاجتماعية (الأساسية طبعاً لبناء الحضارات). وطبعاً لا حضارة أصلاً في ظلّ تحكّم دوافع الهو. الهدف هو أن تنجح الأنا في عدم تغييب الهو من أجل الأنا العليا. المجتمع، بكلّ ما تلقّنه الإنسان من الخارج من المدرسة والعائلة ووسائل الإعلام والدين، يزرع بنا أطراً معيّنةً أو صورةً معينة تحدّد قيمتنا كأفراد، وتبدأ المشاكل بالظهور عندما يجد الفرد نفسه لا يرقى إلى هذه الصورة مما يفاقم شعوره بالذنب والتوتر. أحياناً أخرى هذه الأطر لا تتماشى مع قناعات الفرد الشخصية التي اكتسبها من خبراته، مما يخلق صراعاً داخلياً مجدّداً. معالجة هذا الصراع تتم على صعيد الفرد، بأن يكون واعياً لعدم ربط قيمته بهذه الأطر والعمل على تقوية " الأنا" ليتحكّم بصورته بنفسه. كما يمكن معالجة هذا الصراع مجتمعياً عبر تقبّل الآخر. وهذه المقاربة الاجتماعية تشمل وسائل الإعلام والدعايات، مظاهر البرجوازية، المناهج الدراسية، قصص الأطفال، وحتى الأفلام والمسلسلات التي نشاهدها... يجب على الأنا أن تدرك أن كلّ هذه المعايير "الخارقة" من الأنا العليا هي خارج سقف التوقّعات ولا يجب أن نقارن أنفسنا بها دوماً من ضمن دوّامة... " لازم بعمري كون عملت".