كبرنا ونحن نحبهن كما كبرنا ونحن نتنفس دون وعينا لهذا الفعل وأهميته في حياتنا. حبُّنا لأي كائن آخر يبدأ بعد ولادتنا ويحتاج لوعينا ليستمر، الا حبنا للأمهات، فطريّ، مألوف، منطقيّ، وبيولوجي. نأخذ فترات طويلة لنعتاد الوجوه الأخرى، لنقيّم من هو آمن، من يحبنا حقاً، ثم نترك أنفسنا بين أيديهم، نضحك معهم وعليهم، لكن سرعان ما تجول نظراتنا الغرفة، تبحث عن الوجه الوحيد الذي عرفناه قبل الولادة، وجه أمنا المبتسم الفخور، وجه أمنا التعب بعد ليالٍ من السهر بسببنا، نلقاها تبتسم تنتظر عودتنا الى حضنها... مهما أحببنا من يحملنا، ترانا ننتفض شوقاً نشير بشراسة للرغبة بالعودة للكتفين الأكثر أماناً من الوطن.
لا يمكنني أن أتحدث عن هذا اليوم دون عواطف، عواطفي سليمة لم تتسخ بشروط وأنانية الأطفال وتنميطات الانظمة وتقديسات المجتمع. أنا أقدس "ابتسام"، أمي، لا لاستغلالها تحت حجج التضحية، ولا لفرض دوراً اجتماعياً على باقي النساء، أنا أقدسها لأنها الظاهرة الوحيدة التي تتركني أتساءل عن عظمة الوجود. النساء إجمالا يجعلنني أُغرم بالوجود والطبيعة وقدرة أجسادنا على تحمل الآلام المختلفة وحدنا، قدرة أجسادنا على تمثيل الجمال وكسر المعايير باستمرار. النساء وقدرتهن على الانجاب، النساء وقدرتهن على العطاء واحلال السلام والحب والجمال، هذه ليست تفاصيل، ولا مذمات ولا إهانة، وحتماً لا أقصد بها التنميطات التي من شأنها اظهارنا على هيئة كائنات ضعيفات لطيفات نخدش كالقطط الصغيرة، بل أقصد أننا قادرات على إحلال السلام المطلوب لاستمرار هذه البشرية ومعها الطبيعة ومعهما الكوكب. اقصد السلام المعادي للاستعمار والاستغلال وتعنيف الشعوب وتهميش الملايين، أقصد بالسلام المَهمّة المستحيلة والأكثر الحاحاً، اذا ما أردنا للحياة سبيلا. ولا يناقشني أحدكم بوجود نساء عنيفات ينفذن أجندات الأنظمة الأبوية لأننا نعرف، هذا ليس اكتشافاً عظيماً لكن العظيم هو أن تلتفتوا أنتم الى أبوية هذه الانظمة ودورها في سرقة أخواتنا وتجنيدهن في معسكرات معادية ليس فقط لنا، بل لمستقبل البشرية ككل. أي أنه من المهم أن تلتفتوا الى حقيقة أن الخنادق المعادية للنساء هي خنادق معادية للوجود البشري وسلامة عيشنا على هذا الكوكب. ومن هنا أصبحنا بالضرورة كنساء، الجزء الأهم في عملية إحلال السلام، نتشارك في خندقنا مع المهمشين والمهمشات وجميع الاقليات اللواتي يقاومنَ يومياً سحق الانظمة لوجودهن. لم ننجر بالحديث بعيداً عن الأمهات، اذا أحسستم أننا فعلنا فهذا لأنكم تفصلون الامهات عن وجودهن كنساء، وكأن الامومة مرتبة أخرى نرتقي اليها فتسقط عنا جميع الصفات والحقوق البشرية العادية.
ماما ابتسام، انا أسلم أنني أحببتك قبل أن أعي هذا، وأسلم أن الحديث معكِ أو عنكِ لا يمكن أن ينفصل عن العاطفة التي أحمل لك منها ما يغرق قلبي للأبد. لكنني أعي أن هذا الحب الفطري تغير، لينضج ويصبح سياسيّاً بامتياز. أعلم أن كلمة سياسة تدفع الجميع للعبوس والامتعاض، وأعلم أن السياسة دائماً مرتبطة بالمعاناة والأسى، لكنك أنتِ تعلمين أن هذه المعاناة خصّتني وإياكي بعلاقة أبعد من الأمومة والفطرة. ماما ابتسام، إنني أحببتك حقاً في المرة الاولى التي عرفت أن جسدي ينزف شهرياً مثل جسدك، في المرة الاولى التي عرفت أن وجهك الجميل يتعب ويبكي، أنك أحياناً تريدين القطعة الاخيرة من الغاتو أيضاً، أنك أحببت شباناً قبل أبي، أنك تصرخين من الغضب والالم، تحتاجين مساعدتي أحياناً، يوم عرفت أنك أحياناً كثيرة تودين البقاء في الفراش عوضاً عن تحضير الطعام لنا، أحببتك أكثر عندما علمت أنك تشتاقين للأيام التي لم تكوني فيها أمًّا لأحد. أنا لا أبالغ قولي هذا يا ابتسام، أنا أحببتك أكثر لأنني حينها فهمتُ أنك تشبهينني أكثر.
ماما ابتسام، إني أُدين لك بالكثير. أنا أعلم أنه لم يكن من السهل سماع أحاديثي عن جسدي وتقلباته ورغباته، أعلم أنه لم يكن من السهل الاستيقاظ وسط جموع من الكارهين للنساء واتخاذ القرار بالوقوف الى جانب ابنتك النسوية، أعلم انه لم يكن من السهل الوقوف بوجه أبي ورجال القبيلة والعشيرة لمساندتي في معركتي، أعلم أنه ليس من السهل نسيان سنين طويلة من التعاليم الذكورية والابوية، ليس من السهل الانفتاح لتقبل ما هو غريب عنك، ليس من السهل التمرد على المحيط والاصدقاء واختيار السير في الطريق الاصعب. أعلم أنه ليس من السهل الاختيار يومياً بأن نكون نسويات نتعامل مع بعضنا كأخوات، لنا المعاناة ذاتها والمعركة التحررية ذاتها. أنا أرى يا ماما ابتسام، كل ما تجاهدين من أجل تقبله يومياً، أراكي حين تقمعين صوت العالم كله في رأسك وتختارين صوتي وصوت النساء، حين تختارين رؤية الامور من عيون أخواتك وأنا منهنّ، أراكِ عندما تشارعين صديقاتك على مواقفهن مع بناتهن، أراكِ كيف تشعرين بالغربة أحياناً وسط جموع ما عادت تشبهك. أنا أراكِ وهذا أقل الايمان يا أمي. أراكِ وأتمنى لو تدركين كم سهّل وجودك وجودي كامرأة في مجتمعنا هذا، كم سهّل وجودك استيقاظي للمواجهة، والمقاتلة للوجود. كم ثبت وجودك مواقفي السياسية والنسوية، كم ثبت أرجلي في المواقف الصعبة والمخيفة، كيف كان صوتك ثبات صوتي الخائف والمتردد. أتمنى لو تدركين أنك لست سبباً في وجودي في الحياة وحسب، بل سبباً في بقائي فيها.
ابتسام، المرأة التي تخطت الأمومة للأختية، كل عام وأنت نسوية شرسة، تجوب الشوارع مع اخوتها النساء وجميع المستضعفين والمستضعفات، تصرخ معهن بوجه الانظمة والقبائل، تمسك بيد ابنتها وتدفعها للخطوط الامامية للصراع، كل عام وأنت ملجأ أصدقائي وصديقاتي وكاتمة أسرارهم/هنّ. أنت تفعلين الكثير لمجرد وجودك، ولمجرد وجودك هنا... أنا أحبك.