يوم آخر أصحو على صوت انفجار وقع قبل عام ونصف. أعود إلى تفسير الطبيبة النفسية: إنه اضطراب ما بعد الصدمة. في بداية رحلة العلاج قالت لي إن شعور الخوف وانعدام الأمان لم تأت به صدمة الانفجار، بل يعود إلى سنوات الطفولة، إلى الأهل.
عبثاً حاولت اكتشاف سبب هذا الخوف. تصف طبيبتي قلقي بأنه نتيجة الصدمة وليس مركبًا في شخصيتي. أتذكر سنوات طفولتي. أتذكرها جميلة وهادئة. أتذكر اضطراب علاقتي بوالدتي، الذي وصل إلى حدّ الانفجار والقطيعة لفترات.
أعود إلى طبيبتي. طلبت مساعدتها بالتخلص من شعور الغضب، ما حدث كان بشعاً لكنني لا أريد أن أغضب. "عليك النظر إلى والدتك كامرأة وليس كوالدتك". هنا شعرت بتماثل أغفلته لسنوات مع والدتي. عدت إلى امرأة أعرف القليل عن قصصها، تلك التي ردّدَتْها على مسمعي بحرقة. لا أتذكر والدتي وهي تسرد قصصًا جميلة من حياتها، رغم إدراكي لحدوثها، لكن الألم يترك آثارًا تمحي الذكريات الجميلة.
شعرت بألم امرأة أحبت وانكسرت. تفهمت شراستها ضد رجال أحببتهم وهي كرهتهم. لم نستطع يومها التوصل إلى حل يرضي الطرفين. أرادت حمايتي من ألم ترك شعورًا بالخدر في مشاعري، مقابل رغبتي باختبار كل تلك المشاعر رغم قساوتها. فما الحياة إلا تراكم تجارب.
أعود إلى طبيبتي، إلى ما أعرفه عن علاقة والدتي بجدتي. بتكرار جملة والدتي أنني أتصرف كما تصرفت هي مع جدتي وندمت. ذلك الشعور في الذنب كبُر معي، حتى ما عدت قادرة على تحمله. وصّفت طبيبتي الأمر بالتروما المنتقلة عبر الأجيال. تذكرت ما قرأته قبل سنوات عن "جرح الأم"، عن الألم الموروث من الجدة إلى الابنة ثمّ الحفيدة. عدت يومها إلى المنزل وبكيت ساعات على طفلة لم ألدها بعد. خفت على صغيرة لطالما قلت إني سأنجبها. تساءلت عن سبب رغبتي في الإنجاب رغم الألم. لم أرد نقل كل هذا الثقل إلى طفلتي. تشبثت بالعلاج أكثر لأجلها. هناك من عليه إنهاء هذا الألم وهذه المعاناة. قررت أنه هنا سيتوقف ألم والدتي وجدتي ووالدتها وقبلهن نساء عائلتي.
تحاملت على نفسي حتى استسلم جسدي للقلق وبتّ حبيسة المنزل لشهر. صرت أخاف الخروج من البيت. قالت لي والدتي يومها إنها آثار حرب تموز. لا أتذكر شيئاً من تلك الحرب. فنحن نقطن في منطقة جبلية لم يطلها القصف، لكن ما شاهدته منذ طفولتي عن الاحتلال والإجرام الإسرائيلي أرعبني طيلة ٣٣ يوماً. رعب أكبر من أن تتحمله ابنة الإحدى عشرة سنة، فنسيت ما حصل. هذا الاكتشاف أزال غيمة عن قلقي. لم تكن والدتي مسببة لكل ذلك القلق. عدت إلى سنوات طفولتي. تذكرت يوم كانت والدتي توقظنا للذهاب إلى المدرسة، تتأكد أننا لبسنا وتناولنا الفطور. بعدها تتجهز. تلبس ثيابها المنسقة، وتقف أمام مرآتها لتتبرج وتزيّن شعرها. ذات مرّة أوصتني: عندما تكبرين يجب أن تتبرجي أمام هذه المرأة لأنّ الضوء هنا ممتاز. علقت في رأسي فكرة أنّ على المرأة أن تخرج بكامل أناقتها من المنزل، وهنا فهمت تعلقي بالتبرج وثيابي والعناية بالبشرة، رغم كثرة التعليقات عن تفاهة هذه الاهتمامات.
عادت صور الطفولة، إلى المدرسة، التي كنت امقتها، لكنني داومت، ما هي الا سنوات مملة وستمر. اذكر يوم كانت تحضر أمي اجتماع اولياء الامور، طالما أحسست بالاطمئنان والامان لوجودها هناك. كنت انظر إلى جموع الأمهات واتطلّع لأمي، لم اتلمّس هنا بروزها. أن تكون المرأة أُمًّا ليس بالامر المميز، فجميعهنّ أمهات. لكن إحساسي كان دومًا ان والدتي كانت "غير"، طالما حضرت معتنيةً بمظهرها، تحدّثت بثقة مع الأساتذة، وهم بدورهم استهابوها. كانت بين الأمهات طبيبة تتقن خمسة لغات وقادرة على مناقشة محتوى المواد التي يقدمها الأساتذة في الصفوف. هنا تأسست في ذهني قناعة بأن المرأة يجب أن تعدّ لنفسها، ما استطاعت، من قوة، اي وجوب تحصيلها الشهادات العلمية، ان تعمل وتكوّن "اسمًا". هنا فهمت رفضي لفكرة الزواج. بعد عشرين عاماً من تلك الحادثة، أحللها، أفهم ترسباتها البرجوازية، لكنّي أتمسك بصورة المرأة التي تركتها والدتي، عن قصد أو غير قصد، وجعلت مني امرأة فخورة بنفسها.
كنت أعتقد أنه يوم أنجب طفلة وأحملها بين يدي سأرتاح، إذ سأتمكن من حمايتها. فهمت أن تلك الفتاة الصغيرة الخائفة التي أشعر دائماً بوجودها ما هي إلا أنا. عليّ أن أحميها، وأعود إلى تربيتها من جديد، أن تكبر بخطوات صغيرة، أدعها تبكي بعد يوم عمل طويل، أهديها لوح شوكولا، وأشتري لها ما ترغب به. خفّت رغبتي بإنجاب طفلة نسخة عني، بل أحلم بطفلة مختلفة، ترى بي مثالاً لامرأة قادرة على القيام بما ترغب به، تعبر بحرية، تبكي وتضحك وتحب وتكره. يومها فقط سأتأكد أنني، ونساء عائلتي، شفينا من جرح الأم.