يأتي المهرجان اللبناني للكتاب، هذه السنة، تأكيدا على الدور الريادي الذي لعبته وتلعبه الحركة الثقافية في إرساء أسس ثقافة وطنية جامعة عابرة للمناطق والانتماءات الطائفية والمذهبية، فهي التي نشأت عقب انتهاء حرب السنتين عام ١٩٧٨ والتي تحدت حواجز الميليشيات الطائفية ومشاريعها الانعزالية والتقسيمية والتي شعت كنبراس في الظلمات وصت حرب طالت ايامها البائسة وتمادت في إراقة الدماء البريئة.
فكل هذا التاريخ المنير يدفعنا الى التساؤل: “هل ان الحركة الثقافية استثناء وحيد هبط فجأة على المنطقة وأهلها او انها، على العكس، نتيجة طبيعية لمسار نضالي طويل ألفته المنطقة؟"
يفرض علينا السؤال المطروح، السير بمنهجية علمية متقنة تمكننا من الإجابة عليه بقدر وافي من العلمية، بالبرهان التاريخي الملموس وبالاستناد الواضح على مراجع تتمتع بمصداقية بحثية وعلمية معروفة. فيكون الكتاب المرجعي الأساسي لبحثنا كتاب الأباتي أنطوان راجح "دير مار الياس-انطلياس" الصادر عام ٢٠١٨ في ذكرى مئوية الدير الانطونية الثالثة.
لا شك ان المواضيع المتصلة مباشرة او غير مباشرة بالدير ودوره ودور الرهبنة الانطونية متعددة وكثيرة، الا اننا سنكتفي، لضرورات بحثية، بعرض الدور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدير والرهبنة الانطونية من خلفه والتركيز على تأثيره على العاميات الفلاحية التي شهدها جبل لبنان أواسط القرن التاسع عشر والتي اعتبرت أولى ارهاصات التحركات الاجتماعية المتحلية بالوعي الطبقي في ذاك الزمان.
في شهر كانون الثاني من سنة 1820 زادت السلطنة العثمانية، عبر والي صيدا الجديد عبد الله باشا، مقدار الضرائب المفروضة على أبناء الإمارة الشهابية المنتمين في أغلبيتهم إلى طبقة الفلاحين. هذا القرار قد زاد من نقمة الفلاحين على طبقة الأعيان فكما هو معروف، تجمع الضرائب في النظام العثماني السائد وقتها بتراتبية هرمية. فالباب العالي يطلب زيادة الضرائب من الولاة والولاة بدورهم يطلبون ذلك من الأمراء والإقطاعيين الذين بدورهم يزيدون الضرائب على العموم، فيتكبد هؤلاء العبء الأكبر وتزيد أحوالهم فقرا وبؤسا. والجدير بالذكر هنا أن رئيس داير مار إلياس الأب تادروس أبو جبارة قد ختم ووقع على وثيقة الفلاحين الذين رفضوا أداء الضريبة الجديدة. فنرى دور لافت للرهبة الأنطونية في دعم تحركات الفلاحين الاحتجاجية وانتفاضاتهم. نخص بالذكر هنا المطران يوسف اسطفان ابن بلدة غوسطا الكسروانية الذي كان له اليد الطولى في حشد الفلاحين وحضهم على الثورة ما دفع الأمير بشير إلى اغتياله عبر دس السم في قهوته عام ١٨٢٢.
كما ولم تقتصر العامية الأولى التي شهدتها منطقة انطلياس على الثورة المسلحة فقط، بل، وبخطوة ديمقراطية نادرة ومميزة، قد صاغت الجماهير المنتفضة اول نص منسق لمطالب العامية. يتضمن هذا النص المطالب الجوهرية للفلاحين كما ويشدد على وحدة الصف ونبذ التمييز على أساس الدين ما يمكن وصفه بخطوة استثنائية في تلك الأيام التي كانت الانتماءات الطائفية تلعب دورا هاما فيها على مختلف المستويات والصعد. جاء في نص العامية الأولى"... كذلك تجدد الرضا والاتفاق والعهد والتوفيق بيننا نحن المدونين أسمائنا بهذه الحجة عموم أن نكون حال واحد باتحاد كلي في جميع الأمور التي تأول إلى قيام الصالح لنا ولجميع أهل بلادنا وحمايتهم وصيانتهم من دون تمييز درزي ونصراني ونكون على رأي واحد ويد واحدة وحال واحد على الخير الذي من الله والشر الذي يداهمنا من الغير بأي وجه كان..."
الملفت في هذا المقطع من النص الأصلي هو الخطاب النابذ للطائفية والمفعم بالديمقراطية والممتلئ بالعزيمة الثورية، إذ يمكننا التأكيد على أن هذه الجماعة من الفلاحين كانت تتحلى بوعي طبقي لم يأت من العدم، بل كان حصيلة تاريخ طويل من النضال المادي كما ومن التوعية الفكرية والأيديولوجية المستنيرة. ففلاحي أنطلياس وجبل لبنان في أوائل القرن التاسع عشر كانوا يدركون تمام الإدراك مصالحهم المادية ها ويدركون سبل تحقيق هذه المصالح والطرق المثلى لإتمام مهماتهم الاجتماعية والاقتصادية، أما اليوم فكم نحن نجاهد من أجل دحر الأوهام الإيديولوجية المغلوطة التي تبثها الطبقة الحاكمة في عقول من تحكم، فتحول حفار قبرها إلى مدافع شرس عن طغيانها.
ومع تطور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في جبل لبنان وفي جميع أنحاء الشرق عموما، لم يتوقف دير مار الياس انطلياس والرهبان المشرفين عليه من التفاعل مع محيطهم المتغير أبدا. فأتت أيام عام 1840، وكان الحكم المصري على جبل لبنان بالتحالف مع الأمير بشير قد أشرف على نهايته. وكانت ازمة اقتصادية خانقة قد ضربت ربوع الجبل في تلك الأيام فثار الفلاحون من جديد وكانت قبلتهم دير مارالياس أنطلياس كما عهدوا. لن نسرد مرة جديدة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أدت إلى نشوب العامية فالقارئ المتابع لكتاباتنا يعرف تمام المعرفة كم من الوقت خصصنا لتحليل هذا الموضوع وللتفكر بحوادثه استنادا على مراجع معروفة وموثوقة. أما ما يهمنا من هذا الحدث هو عرض ميثاق العامية الثانية الذي حرر أيضا في دير مار الياس أنطلياس والدور الجوهري والأساسي الذي لعبه الدير في تجميع الفلاحين وتوحيد مطالبهم.
جاء في ميثاق العامية الثانية:" إنه يوم تاريخه قد حضرنا الى مار الياس- أنطلياس ونحن المذكورة أسمائنا به بوجه العموم من دروز ونصارى ومتاولة وإسلام المعروفين بجبل لبنان من كافة القرى، وقسمنا يمين على مذبح القديس المرقوم بأننا لا نخون ولا نطابق بضرر أحد منا كليا. بل يكون القول واحد والرأي واحد".
الأساسي ذكره هنا هو أن كاتب هذا الميثاق هو القس اسبيريدون عرموني خادم دير مار الياس- انطلياس، فدور الرهبنة الانطونية كان أساسي ومحوري في دعم التحركات الشعبية في جبل لبنان، فيسجل هذا الفعل في تراث قديم اسسته الرهبنة المذكورة القائم على التعاون مع العلمانيين ودعم المطالب الاجتماعية وايلائها أهمية كبرى.
أما وقد عرضنا الدور المحوري التي لعبته الرهبنة الأنطونية ودير مار الياس- أنطلياس في دعم العاميات الفلاحية في جبل لبنان، سنعرض الان بإيجاز، الدور الاقتصادي الذي لعبه الدير في المحيط.
" لما الطواحين دارت في مطاحنها.... عم الرخاء وولى الجوع وارتحلا"
هذا المثل الشعبي يختصر الدور الأساسي التي كانت تلعبه المطاحن عموما، في تأمين الاكتفاء الغذائي لسكان منطقة معينة، فالمطاحن تعني القمح والحبوب والبرغل والسميد وهي كلها عناصر حياتية أساسية للحياة الفلاحية والزراعية. للرهبنة الأنطونية دور في ذلك أيضا، فمطاحن الرهبنة اثنتان في أنطلياس. وهي التي خلقت ديناميكية اقتصادية فريدة من نوعها في ذلك الزمان فقد كانت تؤمن الخبز للفلاحين، شكلت هذه المطاحن سترة نجاة مهمة خلال أيام المجاعة التي ضربت جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى فساهمت بتأمين المأكل لعدد كبير من العموم آنذاك.
من ناحية أخرى عام ١٩٠٢ بادرت الرهبنة الى تحريج هضبات كثيرة في منطقة المتن فانتشرت الزراعات المختلفة خصوصا الموز والليمون (وباشر الفلاحين الى استبدال التوت بالليمون نظرا لتوقف اقتصاد الحرير الذي كان سائدا) وقد اشتهرت المنطقة بذلك منذ القدم وقد تأسس عيد الليمون عام ١٨٧٥ في انطلياس. كانت تجربة زراعية تعد الأولى من نوعها في المنطقة، تأسست على يد مواطنان هم فرح طعمة واسكندر الجاويش.
حاولنا بهذا العرض الموجز الإجابة بأكبر قدر ممكن من الدقة والعلمية على الإشكالية المطروحة، فيتبين لنا بعد هذا البحث والعرض أن الحركة الثقافية في أنطلياس ليست يتيمة، بل على العكس تمتد جذورها في الأرض لتصب عزيمتها في تاريخ نضالي واسع النطاق كان لدير مار الياس وللرهبنة الانطونية الدور الأكبر في صونه وتطويره.
فشكلت الرهبنة الأنطونية المثال الذي يقتدى به للشراكة بين العلمانيين ورجال الدين، هؤلاء الرجال الذين لا يكتفوا بالصلوات الروحانية وحسب، بل يصلون أيضا في أعمالهم اليومية. هؤلاء الرجال الذين يدركون تماما أن جوهر الدين في نهاية المطاف هو الإنسان ورسالة الدين الحقة تكمن في تأمين عيش لائق للإنسان لا أن يكون الدين سترا مبررا للهاربين من العدالة واللصوص كما يريد البعض تصويره اليوم. فتكون رسالة الرهبنة بناء كنيسة من بشر لا من حجر، كنيسة تشهد للحق وللحقيقة.
*استعرنا عنوان مقالتنا من عنوان كتاب المرحوم الأب هيكتور الدويهي أحد مؤسسي حركة الشباب الزغرتاوي