قراءة أولية في الانتخابات البرلمانية التونسية

حتّى لا يفخر المقاطعون بنسبة عدم المشاركة
ولا يدّعي المشاركون أنّهم حقّقوا أهدافهم

ما أحوجنا إلى القراءات المتأنيّة والرصينة التي تأخذ بيد البلاد والشعب للخروج الثوري من هذه الأزمة الخانقة على الصُّعد كافّة، والتي تنذر بتطوّرات خطيرة لها انعكاساتها السلبيّة على المجتمع والشعب بطبقته وبفئاته المختلفة وبخاصّة الفقيرة والمهمّشة منها، هذه الفئات التي تمثّل الأغلبية والمحرّك الأساسي الفعلي لماكينة البلاد سواء بالسلب او بالايجاب. سواء بالفعل المغيّر والمرجح لكفة القوى الثورية او بالاستقالة والتراخي المرجّح لكافّة المنظومة الحاكمة اليمينية. هذه المنظومة التي تتوالد من رحم بعضها البعض (الرجعية/الخوانجية، الليبرالية المعتدلة والمتوحّشة/كلّ الأحزاب التي تدور في فلك الحزب الدستوري والتجمّع وما أفرزاه بعد الثورة وبنك احتياطهم .. التكتّل والجمهوري والمؤتمر وما فرٌخ من أحزاب، والشعبوية/ قيس سعيد ومن تلاه ولفّ لفّه).
إنّ طرح الأسئلة على ما يفرزه الواقع من أحداث ومعطيات علينا أن نتناوله دون ما انفعال أو مغالطات أو محاولة استقطاب بالخلف، أي بسبِّ الآخر عوض تقديم بدائل حيويّة.
والمحطة التي أثارت الجدل والحبر في هذين اليوم (باستثناء كاس العالم طبعا) .. هي الانتخابات التي أقرّها وضبط قانونها ودعا إليها .. قيس سعيد. حيث دار الجدل ليس حول النتائج فقط، بل حول المسار ككلّ، منذ أن استحوذ شقٌّ من منظومة الحكم على كامل السلطة بعد صراع مرير بين الشطرين في تنازع للصلاحيات والسلطات، ولعلّ زيارة رئيس الدولة لثكنة العوينة في شهر رمضان قبل الماضي ومجاهرته بأن الأمن الداخلي والقوى الحاملة للسلاح من صلاحياته العسكرية والداخلية، كانت شارة انطلاق الصراع العلني والمفضوح للعيان، وقد آل في منتهاه إلى قيس سعيد بخياراته ورؤاه التنظيمية والسياسية، وجمع في يديه كلّ السلطات دون استثناء، مستعملاً في ذلك خطاباً، هاجم من خلاله المنظومة وقدّم نفسه على أنّه من خارج نمط الحكم المتعارف عليه، وبأنّه جاء لتصفية الحساب مع مَن حكم ونهب وأفسد البلاد خلال العشرية الأخيرة.
وهو ما جعل العديد من الفئات الشعبية تلتفّ حوله وحول مساره المسمّى 25 جويلية (شباب ومثقفين وأطياف من التقدميين وأنصار الدولة المدنية والمعادين للشق الرجعي الخوانجي في منظومة الحكم).
جاءت هذه الانتخابات بعد انتظارٍ طويل من قبل مناصري مسار قيس سعيد وقد سُبقت ببعض الأحداث المسرحية التي أراد من خلالها الايهام بأنّه ماضٍ في المحاسبة، وهي أحداث جعلت الثقة في سعيد تتضاءل، بالأخصّ، حين رافقتها بعض المحاكمات التي مسّت بحرية التعبير واستعمال العنف وعودة هيمنة جهاز البوليس، هذا بالإضافة إلى الوضع الاجتماعي المتدهور والمتوتّر، حيث لم يعد يشغل بال عامة الناس سوى المعيشة وتوفير قوت يومهم جرّاء غلاء الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، إضافة إلى أن هذا الموسم هو موسم الجني، جني محصول الزيتون الذي لا ينتظر.
في هذا السياق العام جاءت الانتخابات التي بنيت في فلسفتها على إحياء العصبية القبلية والانتماء الدموي ونصرة الأخ ظالماً أو مظلوما، من جهة، وعلى من كان يملك المال للتحرّك والقيام بحملته وربط علاقات المصلحة بين الموقع الاجتماعي والمصلحة المادية المباشرة.
قراة في نسبة المشاركة او نتيجة المشاركة
بعد الحملة الشرسة التي قامت بها الجهة المنظّمة للانتخابات بالدعوة للمشاركة وذلك عبر أجهزة الدولة والمؤسسات الرسمية وطاقم المفسّرين والأنصار، الذين ذهبت بهم شطحات خيالهم إلى توقّع هبّة شعبية لا مثيل لها للمشاركة وحسم الأمر نهائياً إلى صفّ قيس سعيد ومساره، حتى أنّهم توقّعوا مشاركة تفوق أربعة ملايين ناخب، مراهنين على الشباب فسجّلوا كلّ من بلغ سن الثامنة عشرة تسجيلاً آليا، وأقاموا البرامج الحوارية والمعلّقات الاشهارية والمراسلات الالكترونية التي قامت بها الهيئة المستقلة جداً للانتخابات. على الرّغم، جاءت نسبة المشاركة مخيّبة لآمال الداعين لها، حيث استقرت في حدود 8,8% .. وهو ما يمكن أن نستشفّ من خلاله انّ عامة الناخبين غير مكترثين لهذه الانتخابات، وذلك لأسباب متعدّدة ومتنوّعة، منها المعارض السياسي الداعي للمقاطعة، ومنها الرافض لكلّ المحطات السياسية وما يمثله الساسة باختلاف انتماءاتهم، ومنهم من يرى لا جدوى لهذه الانتخابات، ومنهم من فضّل أجرَ يومِ عمل في جني الزيتون .. الخ. فالسياسة بالنتائج مهما كانت الأسباب، فقد فشلت العملية فشلاً ذريعاً رغم تكلفتها المادية الباهظة، بل وقد ورّطت البلاد وعمّقت الأزمة، ودفعت بالحاكم الحالي إلى زاوية مغلقة في علاقاته الداخلية والخارجية، لدرجة تفقده مشروعية ومصداقية حكمه وأطروحاته وخياراته. وقد يذهب البعض إلى القول أن هذه نسبة مشاركة وليست نتيجة، وهو في ذلك محق، لكنها نسبة ونتيجة في آن واحد، لأن الداعي لها قابلته تنظيمات سياسية داعية الى مقاطعتها، مما يجعلها تؤخذ كنتيجة في هذا الصراع بين الدعوة للمشاركة والدعوة للمقاطعة. لكن لنحذر ذلك، فهذه نتيجة مخاتلة، بمعنى أن نسبة من لم يشارك في العملية الانتخابية ليست من صفّ دعاة المقاطة، بل ربما، وهذا يكاد يكون مرجّحاً .. أن نسبة المستجبين لدعوة المقاطعة قد يصل هو بدوره إلى نفس النسبة أو أقلّ أو أكثرَ قليلا. لذلك لا يجب أن يفخر المقاطعون بنسبة عدم المشاركة، ولا يدّعي المشاركون أنّهم حقّقوا أهدافهم.
فالنتيجة تنبئ بخطرٍ داهم يجب ضرورة التنبّه له ومحاولة أخذه على محمل الجد، وهو أن التنظيمات التقليدية والوجوه التقليدية وأساليب العمل التقليدية لم تعد ذات قيمة، ولا تأثير لها في عامة الناس سواء ناخبين أو غيرهم. وأن المنظومة الحالية قد باءت بالفشل بدساترتها وخوانجيتها وشعبويتها .. وهو ما يفتح الباب أمام القوى الثورية باستنباط آليات وأساليب وأشكال تنظيمية جديدة قادرة على استيعاب موجات الغضب الشعبي المقبلة .. وإن لم نتوصل إلى ذلك في القريب العاجل، بما يناهض المنظومة بكلّ ممثليها القدامى والجدد، وإلّا ستؤول دفّة الحكم إلى مؤسسات جديدة من خارج الأحزاب والتنظيمات، وقد تلقى ترحيباً شعبياً الأمر الذي سيذهب بالشعب التونسي إلى مناطق قد تكون خطيرة أكثر ممّا يمكن تصوّره.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 411
`


سمير طعم الله