زمنُ " الوكس "


... كلَّما رفعَ كأسَهُ الظامئةَ لقطرةِ ماءٍ، يتوسَّلُها وهو مُمَدَّدٌ فوق فراشِ تعَبِهِ، تمتدُّ يدٌ من مكانها البعيد، تسكبُ له ماءً فُراتاً... عذبَ الملامحِ، لرجلٍ مُقبلٍ من غياب، وقد تباسقَ جِذْعُهُ جَذِلاً ميَّاساً، والوجهُ الوسيم يروي لحظاتِ التعبِ بحكايا عجَب، وقد بلغ ما سكبَ سبع مرّات، رقمٌ يبعث على الإنشراح، وهو رقم الحظٍّ والنصر والتفاؤل.


وكان للوسطى والسبّابة، صولاتُ وجولاتُ الميادين، والتظاهرات، والاشتباكات؛ فهي كالمعين لا تنضب منها، أو تُفارِقُنا إلّا لضرورةٍ عاجلة مُلّحة. منذ سنينَ وسنين، لا يُحصرُ، أو يُحصى، كم رُفِعَ فيها شارات النصر، تُحلِّقُ طيورُها بهتافاتٍ، تمنح الفضاءَ سببَ انوجاده، وتجعلُ منه مسرحَها الواسعَ الهامات.

تلك الأيادي، وقد أصابها الحَنقُ والحزنُ والغضب، عنها تتدافع أخيلةُ الأصابعِ المزدانةُ ببريق العيون، ولأنّها من وجع الأرض والسماء والتاريخ، خزّانٌ بشريٌّ من وجع العقل، تمتلك القدرةَ على التحمّل، لا يمنعها صيفٌ شديد الحرِّ واللهب، أو زمهريرٌ يعضُّ، يكزُّ على الأنفاس؛ فتخرج تتلّوى بتمازجٍ يعتري الأصابع الخفيّة، ولمعظمها في النهاية، مِعصمٌ وساعدٌ وزناد.
كلّما مضينا والإصبع على الزناد، هو هو السبّابة، لازِمتهُ إصبع الإبهام، لا يفترقان، والإبهام بمنطق العلم والمعرفة، الأساس لمبدأ القدرة على التحكّم بوظائف الحاجة، لا إبهام، يعني لا ضوءَ، لا قدرةَ. لنتخيل، أربعة أصابع لليد بلا إبهام، يغلب حينها الإبهام.
لذا، المُنتَجُ الذي نحن عليه، أي الحيوان العاقل، يمتلك خاصَّتين أساسيتين "العقل وإصبع الإبهام"، يا لها من حكايةٍ انفجرت قطرتها في تلك الكأس المرفوعة لمخلوقٍ ظامئٍ، نحن عليه مهما اقتربت أو تباعدتِ الأقوام.

كلّما، وعلى تطبيقات التواصل، أطبقنا الخِناق على الحياة، لا يعنينا أن نكون مجرّد فزّاعة حقول، عنها تُحَلِّقُ الطيور مواصلةً رحلة الشتاء والصيف، وتلك مساراتها في الفضاء، تلاحقها لعنة الصيادين، لم يكونوا هواة.
الإستيقاظُ في العتمةِ، لعبةُ الأشباح المُفضّلة. قبالة المدرسة والجامعة خمّارةٌ، وزنزانة، يتخلّلها أصوات المُعذَّبين. ربّما نحن، الذين نعتقد بأنّنا أحرار، نختلف، نهتف، نرفع شارات النصر، مجمع الدّموعَ السوداء عن موق الكُحل، وبين دقيقة صمتٍ وأخرى... صمتٌ طويل الباع والأتباع، صمتٌ يصير طرائقَ لمُتعبِّدي العصر الجُدُد، لطالما الحكايةُ هي هذه الحكاية لذاتها، ونحن ما بعد منتصف الليل والعمر، نقترب من هزيع الوقت الضائع والسجّان، لسنواتِ خلتْ، اعتقدناها تتثاقل، تدبُّ على قدمين.
وتضاءلت الأحلام، تسعى على أربعة، ثمَّ قٌرع جرس الناظر، رأيناها تزحف على بطنها، نُسحَبُ من أرجلنا إلى تلك الردهة المعتمة المنسيّة، ومَن احتفظ برأسه، استطاع انفصالاً عن الواقع؛ فكنّا نقع عن أفكارنا، عن مناماتنا، لا ندري ما الذي يحدث، ما الذي يُبقينا متشبّثين بشارات النصر، أوَ تكون تلك البِشارات المخبؤة في كوّارات الزمان...!!؟
في الواقع، إمعانْ غير واضح، يغري، يفري، يقول مزيداً من النيران والسجائر وإشارات المرور، والأشكال المملؤة الأفواه، لا أحدَ يجرؤ على النظر في هذه الثقوب السوداء، ثمة حَنَقٌ، اشمئزازٌ، عِظاتٌ متخمة البطون، نظرةُ غرابٍ على فم طفل، يخطف اللقمةَ اليتيمة، ثمّ يرميها للثعلب. لصٌ ومحتال، يُشكّلان أصابعَنا المبتورة، النقصَ والنكسَ، لا يليق بهذا "الوكسِ" غير الكنس، يُلقى به في العدم.