قمرٌ من بلادي ..

... هنا، "التُرابات من طيبٍ " من أترابٍ وطربِ، "والأرض بتتكلم عربي"، والعقود السبعة تقاوم النسيان، ذاكرةٌ تتوالى من جيلٍ إلى جيل، والحياة بصوّرها تتمظهر إرادةً، عزيمةً وثباتاً؛ فالحنين تشاذٍ لهواء البلاد، ينثر بذوره أنّى أسفارٍ وأسحار .. أعمارٍ من تلك التُرابات التي صورتُنا، من أصداف الشطآن توشوشنا، من تلك الرؤى القديمة هناك، تُعبّرُ عن مكنوناتٍ ومشاعرَ لحُلمٍ واحد.


   في منافينا، في هذي المنافي الرَحبةِ الجراح، تفتح على اتّساعها، لمشاهدَ وأفكار وأنماط حياة، وتحت كلِّ سقفٍ .. فوقه، قمرٌ من الماء إلى الماء وشمس الحياة، قمرٌ في السماء لحيٍّ وزُقاقٍ وشارع، أقمارٌ هنا تتفتّحُ ذاكراتٍ حيّةً، ولضوضاءِ الدّموع وجَناتٌ، ملامحُ وأعمارُ خلت، والحياة كحلقاتٍ داميةٍ عربيةٍ بامتياز، وعميقاً .. عميقاً أجسادٌ تنضجُ، أرواحٌ، تنضح قهراً واغتراب.


   كلّنا، جموعنا في القالب الحديديّ الواحد، تُنزَع عنّا صفة أصيلٍ لأجل دخيل. المتسلّطون أولاء، مرابو العصر، بائعو الشعوب والأوطان، القتّالون الناشرون الصالبون لنا منذ أوّل صرخةٍ وقطرةِ دم. مسلسلٌ دراميُّ يتواصل بكٌتّابٍ ومخرجين من كلِّ محفلٍ صهيوني، ونحن أكبر كومبارس عربي فوق كوكب الأرض، مؤلّف من أربعمائة مليون نسمة  باللونين الأحمر والأسود، كأنّما نمط حياةٍ بلا انتهاء، والنهاية معقودة لمزيدِ قتلٍ وتقهقرٍ واستسلام، لخضوعٍ للغاصب الصهيوني وتفوّقه على الصعد كافّة.


   لوقتٍ طويل، يتحكّمُ بنا الجدلُ العبثيّ، ولوقتٍ يُكتبُ خارج التاريخ، لا بُدًّ لنا من الإعتراف الإيجابي، الإعتراف المصاحب لعملية الفهم والتطوّر والازدهار، والشواهد على سلبيات الاحتلال الصهيوني والاستيطان، لا تخفيها جُدُرُ العزل، وكلّ ذرة تراب وحصاة، تحمل سرديتها، وقصص الناس، لا تتعب منها المنافي، فهل تُخفى، كيف...!!


   جيناتنا، كلُّ ما فيها ضدَّ الصمت والنسيان، وفيها الجغرافيا والماء والتاريخ والشّهداء، فيها الأحساب والأنساب، صلة الدّم والأسماء.. حتّى الشواهد .. المعابد وسوح النضال، وتلك اليوميات .. الشعارات والنضالات، تكشف عن أثواب السعادة .. السُّعاةِ في رحم الذاكرة والتذاكُر، في ثراها .. تلك المدن والقرى والعائلات، المتوزّعة الأزقةِ والحارات، في مخيمات الشتات، ولكلّ مخيّمٍ قمرُهُ وشمس فلسطين، الممهورة النّور والضياء.


***
   أنا العربي الوطني.. "بلاد العرب أوطاني"، المتحدّرُ من جيل تل الزعتر، أتلو شهادتي بفعلٍ مضادٍ للتصهين والتهويد، لطمس الهوُية الوطنية والحقّ الشرعيّ الوطني. وما انتسابنا لأماكننا ما يُقلق، لا بل كيف هُجّرنا وقُتلنا ولمّا نزل في المكين من المكان، والزّمان تثاقفٌ لتغريبتنا، لأقمارنا، لأقدارنا، تشقٌّ الرياحَ، الشُّهُبَ والغضب، على طول العمر المضاء بالفداء والأمل.


   ونحن كالغيم فوق البلاد، وتلك الغيمات ترافقنا أنّى كنّا، والبحر يستعير أناشيد المنافي، لا يملُّ من أغاني الصيادين، من قمر البلاد وشمسها، كما لو نُقبِلُ مع كلّ صبحٍ ومساء، لأنها بلادُنا السِحرُ ورقصات الأضواء، لأنها الصعيد المتثائب المُسبّحُ، لأنها حضن الدفء، كفّا أمي، لننام والشجرَ والطيور. عيوننا... أعينُ النجومِ خطوطُ، ملامحُ الأحلام والأشواق، لأنها بلادي وروحي، عروس الحواضر، وضمير الأمة...
   تلتبس على المجتمعات، إرهاصاتُ .. التراكمات السياسية الإجتماعية النفسية والاقتصادية، وتلك المضامين تنطوي على أمل التحرير والانتصار، تلك الاسقاطات السلطوية الداخلية والخارجية. هنا، تنعدم المساواة، وتغيب الحقوق، تضيع الشعوب، وتضيق بمقاسات مبنيّة على الأمن الإسرائيلي والنفط العربي، المنهوب، المسلوب، المهدور على ترسانة من أسلحة بلا جدوى، الذي يمدُّ قوى الإمبريالية الأميركية والصهيونية بحقوق ومقدِرات الأمة، بأوكسيجينها وإكسيرها، بأسّس وجودها. 

هاك، العدوان تلو الطغيان، وفي التكوين الوجودي، اختلال واقعي لا بدّ من جبهه، من مواجهة أعداء الأمة بقلبٍ واحدٍ، ورأيٍّ واحدٍ وعزيمة، بكلمةٍ سواء.. بأنّ أمة العرب، غنية الثقافات والتعدّدية في الواقع الأصلي اليقيني.. الذين قمرُهم الأرض والدّم، السماء والدّمع، التاريخ والنضالات، الرسالات والشهادات. 


   في جوهر المفاهيم والمقاصد اختلافات طبيعية، وهي نتاجٌ طبيعيّْ من ذات الوجود وماهية العنصر البشري العاقل. اختلاف يتلّمس سُبُلَ الشرائع والقوانين، في الحقوق والواجبات والعدالة والمساواة، في الأمن والأمان السياسي والغذائي، في التطوّر والتعليم، في صون الحياة...


***                                  
   لم نزل في الحرب من جيلٍ إلى جيل، في الخنادق، في الأنفاق والتحصينات، والحرب وجوهٌ في العسكر والسياسة والاقتصاد، كلُّها تجتمع في مفهوم توازن الرّعب؛ فلا تنفع مع المقاومة بمسمياتها، لا الترسانات الهائلة، ولا منها أسلحة الدمار الشامل. هي الحرب يا ولدي على قدمٍ وساقٍ ونارٍ حامية، هي لحظة الحسم لرفض مشاريع الاستسلام، للذهاب عميقاً في الأرض، لمقاومة الغاصب ودحره، ليحمل البحرُ المرتزقة إلى حيث جآءوا، لإسقاط عروش الطغاة الخونة.. أولاء العاملين على تزييف التاربخ، وتشويه وشيطنة المقاومات العربية، واختلاق الوعود الوهمية القائمة على الطائفية والمذهبية، لأجل شرذمة وتفكيك عُرى وأواصر المجتمعات العربية والإسلامية، خدمةً للمشروع الاستيطاني التسلطي الصهيوني، ولحماية عروشهم وأدوارهم الخبيثة المكشوفة، فمهما بلغوا شأواُ، لن ينفعَ التضليلُ والتجهيل، لا التدليس والعويل، لا النفاق والرياء باسم المقدّسات، تلك المقامات التاريخية التي أبيدت عن وجه البسيطة، لأجل حرف التاريخ والجغرافية والدين باسم العائلات المتحكّمة.


   في ثقافة الجهاد، التاريخ والجغرافية لا يُغصبان تعصيباً للتراث، للأرض والجذور، للحواضر والشواهد، وإن يستمرّ الصراع، إنما لِهبة الكبرياء، العنفوان والكرامة، لا أمة بلا شرفٍ وكرامة، والحاجة لا تسحقها وعود الإمبريالية بالمَنِّ والسلوى والعسل؛ فهي عناوين هلامية واحدة، لأولوية حماية الكيان الصهيوني ولتفوّقه على الأمة جمعاء، لأجل نهب الثروات وضرب أحلام الشعوب، كلّها، كلّما ازداد الأعداء هجمة وشراسة، كلّما أكّدوا بأنّا على الطريق الصحيح، تفتح عليهم وعلى عملائهم أبواب الجحيم، هي وحدها المقاومة المشروع الذي ولِدَ تاريخياً من رحم القهر والظلم والاضطهاد.
   أنّه، للتاريخ سرديةٌ دائمة السريان، ودروس التاريخ لا يمكن حصرها، إنما الحرص يكون في الدروس المستفادة من مراحل الصراع.


   أهم ما في حياة المخيمات، وإصرار أناسها ليس على الحياة لذاتها فحسب، بل ذلك الشعور، الذي يتعزّز بواجب العودة، بتلك المفاتيح المعلّقة على مشجب الذاكرة والعمر. هنا، حيث التصفيق كالقناديل والمناديل، وتلك المواويل للبيادر والقصص ورائحة الأجداد والبلاد.


   شعوب لمّا تزل على خشبة الصراع، كأنّما اجتماعات الأنظمة كأصنام قريش، والحوارات مجرّد إيماءات مبهمة، والواضح للعيان تآمرٌ وتطبيعٌ واعتراف على حساب القضية المركزية. ألَا أنّهُ زمان القرون، تخرج من محترفها بمشهدٍ دراميٍّ مقيت، عراضاتٌ بكلّ لغات الخنوع والذّل والاستسلام، ونحن هنا... لا نُصدّق، لا نعيش، لا نموت. نرفض، وهم يقبلون، نُقتل، وهم يعيشون، نُسجن، وهم على عروشهم يحبرون، نؤمن، وهم يكفرون.


   أجسادُنا تعانقُ حروف الشهادة والقيامة، أيامُنا حركة الليل والنهار، كأنّأ أجرامٌ تنقل الحركةَ إلى مستويات واضحة المعالم، وهي حواسّ الأرض والأشكال، الأبجدية ذات نكهةٍ خاصيّة التفاعل والأفكار، الرؤى والاحتمالات، وهي التي تجمع حركة الصغار والكبار.. لا موتَ مؤبّد.

أيّها الغزاة، إرفعوا أيادِيكم النجسة عن بلادنا، عن وجودنا، إذهبوا من حيث أتيتم، كي يتبقّى لكم ثرى لأجسادكم. فالأرض أرضنا، والبلاد بلادنا.