جئتكم بفلسطين التي تسكنُ في دمي

ملاحظة: هذا النصّ هو خطابٍ للمفكر الشهيد حسين مروة ــ بدون تاريخ باليوم والشهرــ كان من المفروض إلقاؤه في لقاءٍ تكريمي له بمناسبة نيله جائزة بيروت التي يمنحها عادةً الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب (العام 1985 ) ، دعا إليه اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين في لبنان ، ومركزه دمشق. وصودفت يومها مناسبة يوم التضامن مع الأسرى الفلسطينيين (من نساء وشابات وشبّان وأطفال ) القابعين في السجون الإسرائيلية ، لكن لسبب ما لم يُعقد هذا الاحتفال ، وكانت النتيجة أن الخطاب لم يُلقَ ولم يُنشر، وبقي بخط  يدي مكبّراً تسهيلاً لقراءته بوضوح ، فارتأيتُ نشره لأهميتة في هذه المناسبة .. (هناء م.) 

*******

جئتكم إلى هذا اللقاء العزيز بدمي الذي تسكنُهُ فلسطين .. 

جئتكم بفلسطين التي تسكنُ في دمي .. 

جئتكم بفلسطين ودمي اللّذيْن أشعلا معاً فرحَ طفولتي وشبابي ، وأوقدا معاً نار طماحي وكفاحي، وصاغا معاً صورةَ حُلمي وقضيّتي، أعني حُلمَ شعبي وقضيةَ وطني .. 

جئتكم ببيروتَ التي فلسطينُ أعمق معناها وأجمل معناها أبداً ..  

جئتكم بفلسطينَ التي بيروتُ خيمتُها ونجمتُها أبداً .. 

جئتكم ببيروتَ وفلسطينَ اللَّتيْن دمشقُ قلبُهما وسيفُهما ، ودمشقُ خطُّ النارالأولُ لمعركتهما التي لن تنطفيءَ حتى النصرالأعظم .. 

***

 أيها الكتّاب الحاملون اسمَ فلسطين  ...

 أنا أيضاً أحملُ اسمَها الأجملَ: فلسطين الأرض، الوطن، الذاكرة، الناس، الحياة، الثفافة والترابِ الطهور الذي لا بدّ أن نغسلَه عن كلِّ دَنَسٍ تلوّثَ به: أكان الدَّنَسُ احتلالاً واغتصاباً واستلاباً واستيطاناً من شراذم العنصريّين والنازيّين الجُدد : الصهاينة .. أم كان الدَّنَسُ عقوقاً وخيانةً من شراذم العرب الانتهازيين والرجعيين والانحرافيين والاستسلاميين .. 

أنا أيضاً أحمل اسمها الأقدس: فلسطين الثورة، القضية، الحُلُم، وفلسطين الشهداء والأسرى .. 

أحمل جُلَّ أسمائها الحسنى .. 

أحمل تفاصيلَ أسمائها الأليفة: أحملُها بدمي عيشاً يوميّاً، وعلاقاتٍ حميمة، في الطفولة، مع أشياء حيفا وعكا ويافا وأشياء الزّيب والبصّة والفولة والعفّولة وأشياء صَفَد وطبريّا ... وأحملها بدمي،  في شبابِ العمر وشيخوختِهِ ، حُباً وكفاحاً وانتماءً وطنياً وقومياً، وارتباطاً بالأرض والتاريخ والقضية: قضيةِ وطني وشعبي وأمّتي، أي قضيةِ الحقِّ لشعبنا العربي الفلسطيني أنْ يكونَ له وطنٌ وأن تكونَ فلسطينُهُ وطناً حُرّاً مستقلاً، سيِّداً لأقداره ومصائره  .. 

تلك هي قضيّتنا معاً  ..

تختلفُ الأسماءُ والعناوين: تختلفُ جغرافيا الأشياء وجغرافيا الأقطار وجغرافيا العواصم .. تختلف الكلماتُ وظلالُ الكلمات .. لكنّ القضيةَ تلك تبقى هي القضية ُ نفسُها القضية ، لا تقبلُ اختلافاً ، لا تقبلُ قسمةً ولا تعدّداً . 

نقول: قضيةَ فلسطين ، ولا ضيْرَ أن يكون المعنى قضيةَ لبنان وأيَّ قطرٍعربيٍّ آخر وبالعكس  ..   

ونقول المقاومة الوطنية اللبنانية ولا ضَيْرَ أن يكون المعنى هو المقاومة الوطنية الفلسطينية، لأنّ المضمونَ هو واحدٌ هنا وهناك .. والتماثل مستحيل  ..

لا يقولنّ أحدٌ إننا نُلغي الخصوصيّاتِ الوطنيةَ أو القطرية، وإننا نقول بالتماثل  ..

لا .. الخصوصياتُ لا تُلغى بإرادةِ أحد ،  التماثلُ مستحيل  .. لكنّ قضيةَ التّحرر الوطني العربية هي قضيةُ كلِّ قطرٍعربيٍّ بالمطلق .. 

 لكنّ قضية الصراع العربي-الإسرائيلي هي قضيةُ كلِّ جزءٍ في خارطةِ الأرض العربية بالمطلق 

 لكنّ قضيةَ تحريرِ فلسطين هي القضيةُ الأساسُ لكفاح كلِّ المناضلين العرب بالمطلق ..

 إنها قضيةٌ يجبُ أن يغرقَ في أعماقها كلُّ تناقض ٍعربيّ ٍ داخليّ ٍ بالمطلق ..  

     لكنّ التناقضَ بين مطامح القوميةِ العربية التقدمية كَكُلّ، ومطامح الأمبريالية الأميركية وإسرائيل، هو قضية بذاتها تضعُها ظروفُ مرحلتنا التاريخية الحاضرة أمام الوعي العربي كقضيةٍ تتصدّرُ بل نسبقُ كلَّ قضايا التناقض الثانوية والتفصيلية في كل أقطار الوطن العربي أي أنها قضيةٌ يجب أن يغرق في أعماقها كلًّ تناقض ٍعربيٍّ داخليٍّ بالمطلق.

*** 

 

وحدة القضية القومية تعني ـ بالضرورة ـ وحدةَ الأهداف الوطنية والقومية ... تعني وحدةَ المطامح التحررية والديمقراطية والتقدمية.

على أساس ٍ من هذيْن الوحدتيْن المتلازمتيْن ، موضوعياً ، تقوم نظريةُ الوحدة العربية الشاملة بمضمونها التحرري الديمقراطي التقدمي، وعلى هذا الأساس نفسِه نهضتْ، تاريخياً، أحلام الشعراء العرب وأفكار المفكرين العرب، طوال عصرٍ مديد نسميه عصر النهضة ..

***

أيها الأخوة الكتّاب والصحفيون  الفلسطينيون،

هذا اللقاء العزيز ماذا يعني بأعمق دلالاته وأبعاده؟

أتسمحون لي أن أرى إليه ، بعيداً عن معنى التكريم الفردي/الشخصي؟

وإذا كان من التعسّفِ إفراغُه كلّياً من معنى التكريم الفردي/ الشخصي ، فهل تسمحون لي أن أرى حتى هذا المعنى الخاص يرتدي علاقتَه الأكيدةَ بالمعنى العام، كعلاقةِ الغصنِ بالجذعِ / الأُم وبِنَسَغِها الدافق؟

ما كان لهذا اللقاءِ العزيز أن يكونَ على ما هو من حرارةِ حُبٍّ وصدقِ عاطفة، لولا أنَّ للفرد/ الشخص الذي تكرِّمون، انتساباً ما إلى القضية الكبرى الواحدة والعظيمة ..

حسبيَ شَرَفاً أن يكونَ لي هذا الانتساب ، وأن يكونَ لقاؤنا العزيز جدًا إضاءةً كريمةً لهذا الانتساب.