جميعة المصارف تتصدّر لائحة المتنفذّين المتسلّطين على الحياة العامة. تعطي لنفسها حقّ اتخاذ قرارات تتعلق بتسكير أو فتح المصارف وفروعها، وتقرير المبالغ التي يستحق المواطن برأيهم أن يأخذها من حسابه، وتقرير نسب الفوائد وكيفية دفعها، والسماح للبعض بتحويل الودائع إلى الخارج مقابل منع الآخرين من صرف المال حتى للحاجات الماسّة. بلغت تحويلات المصارف وكبار رؤوس الأموال عدة مليارات من الدولارات منذ أيلول حتى اليوم، تحت غطاء من مصرف لبنان، وهو لا يزال مستمرّاً حتى اليوم. آخر بدع جمعية المصارف كانت تصنيفاتها التي أطلقتها، بعد أن جنّ جنونها، إثر استهداف الجموع الغاضبة لمقرّها في وسط بيروت - الجميزة، ولمقرّات بعض المصارف الخاصة في شوارع بيروت وفي المناطق. أصدرت الجمعية بياناً قالت فيه أنّ هؤلاء الذين احتجوا على السياسات النقدية واستهدفوا بتحرّكاتهم مصرف لبنان والمصارف الخاصة تحديداً، لا يمثّلون الانتفاضة الشعبية. أعطت لنفسها سلطات تصل إلى حقّ التقرير والفرز، ليس في شؤون طبقتها الريعية الحاكمة، بل حتّى في شؤون وشجون الثائرين عليها وعلى النظام القائم. أوحَتْ الجمعية في كلامها أنّ هناك بعض المحتجّين الذين تستسيغهم، وترى فيهم خير المعترضين وأكثرهم مطابقةً للشروط. إنّ أهميّة الانتفاضة الشعبية في الأسابيع الأخيرة هي أنّها تتجّه بثبات نحو تثوير شعاراتها وتحرّكاتها، ولا تخاف من كبير ولا من صغير. تقف بوجه رأس المال الحاكم، ضد الاستغلال الطبقي والنهب الذي مارسته الطبقة الحاكمة منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم.
الهيئات الاقتصادية، بما تمثله من فئة التجار وأصحاب الاحتكارات، هي الأخرى تدّعي ما لا يعطيها إياه القانون، ولا الشعب. يقول رئيسها نقولا الشماس الذي يعرفه الشعب بـ"أبي رخوصة" حرفياً أنهم يُطاعون ولا يطيعون، ليعبّر بوقاحة عمّا يكنّه كل البرجوازيين الكبار في قرارة نفوسهم، لكنّهم يتفادون البوح به. يتماهى أبا رخّوصة إلى حدّ بعيد مع ما صرّح به الرأسمالي الأميركي المعروف "وارين بافيت" حينما قال أنّه "توجد بالفعل حرب طبقية في المجتمع، وأنّ هذه الحرب تربحها طبقته حصراً". يعيش جزءٌ كبير من الشعب اللبناني آثار هذه الحرب الطبقية عليهم: شتاؤهم قارس حيث يقنّن المحتكرون كميات المازوت المتوفرة للتدفئة، فيما شركة كهرباء لبنان تطمئنهم بأنها ستعطيهم ثماني ساعات كاملة من الكهرباء يومياً، لتضعهم أمام مضاعفة أعباء كهرباء المولّدات الخاصّة. يقرّر المستوردون ما يجب أن يستهلك الناس، بحسب أولوياتهم الربحية هم. اليوم المازوت غير ذي ربحٍ كبير، فيكون الردّ جاهزاً: فليلتحفْ الفقراء السماء، وليموتوا برداً ما دام الدفء لا يدرّ أرباحاً كافية. أسعار السلع الأساسية في لبنان أعلى ممّا هي في دول المركز الرأسمالي الكبرى، بدءاً من الطعام وصولاً إلى الملابس وأجهزة الاتصالات والأجهزة الالكترونية. قلّة قليلة من التجار يحتكرون الاستيراد والتجارة الداخلية، ويختبئون وراء الوكالات الحصرية التي يحميها القانون رسمياً.
حينما يسيطر 1% من أصحاب الثورات على أكثر من نصف الثروة في لبنان، فذلك يعني فعلياً، أنّ سلطة هذه الحفنة من الرأسماليين تزداد عمقاً وترسّخاً. وبحكم تمركز وتركّز الثورة، تزداد السطوة الاقتصادية ومعها السلطة السياسية لهذه القلّة القليلة الحاكمة. ولذلك يصحّ اليوم التوصيف الذي شاع استعماله بين قوى الانتفاضة، بأنّ الحكم القائم هو حكم الأوليغارشيّة. "تكبر الخسّة في الرؤوس" عندما تكبر الحسابات في المصارف، وتكبر معهما السطوة والسلطة على قادة الدولة وأجهزتها وأحزابها.
إلى جانب هذه الفئات البورجوازية الضاربة سلطةً وسطوةً منذ عقود، نشأت فئة رأسمالية صاعدة قامت على نهب المال العام منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى اليوم، وهي تتألف فعلياً من حفنةٍ من قادة ميليشيات الحرب الأهلية الذين صاروا بين ليلةٍ وضحاها قادة دولة القانون والمؤسسات، ففعلوا كلّ ما بوسعهم لمراكمة مليارات الدولارات من الوزارات والصناديق والمجالس والمشاريع والتلزيمات التي احتكروها. دخل كلّ منهم السلطة مع بضعة ملايين من الدولارات وصار الواحد منهم يزن مليارات الدولارات اليوم، على عينك يا تاجر. ونجح هذا الرأسمال الطفيلي الطارئ في تحويل الدولة إلى مجلس ملّي ونظام زبائني، من أجل إفادة بعض المقربين والأزلام، ولشراء الذمم بين القادة الأقل حظوةً، كما بين الإعلاميين والأمنيين وحواشي النظام. وتكمن قوّة هذا الجناح من الطبقة الحاكمة في أنّه يملك بين يديه سلطة السياسة والقانون، وسلطة المال والأعمال، وسلطة الأمن الرسمي وشبه الرسمي، كما سلطة التشبيح والسلبطة. صار هذا الجناح قائداً حقيقياً وفعلياً في القرار السياسي والاقتصادي في لبنان، وحوّل الشعب اللبناني لمتسوّلٍ لوظيفة أو خدمة أو حقّ على أبوابه.
ونشأ بين أجنحة رأس المال هذه، الريعية المالية والاحتكارية التجارية والطفيلية السياسية، تحالفٌ وثيق غير قابل للكسر إلّا بكسرها جميعاً. وضعوا أنفسهم في قارب واحد، وغامروا وقامروا على مصير الشعب اللبناني أجمع، حتى وصلنا إلى ما وصلنا عليه. لذلك تراهم اليوم يدعمون بعضهم البعض، فيفلت قادة الدولة أجهزتهم الرسمية وغير الرسمية لحماية المصارف وجمعيتها، وتحمي المصارف ودائع السياسيين فتسيّلها لهم عند الحاجة وتحولها إلى الخارج إن أرادوا. صاروا اليوم يتشاركون الملكية في القطاعات الاقتصادية الأساسية، حيث تجد الأسماء نفسها: بضع مئات من اللبنانيين المحظيين يملكون المصارف والشركات العقارية والمستشفيات الخاصّة وشركات النفايات وخدمات الكهرباء والاتصالات والانترنت الشرعي وغير الشرعي، وشركات التأمين وشركات النفط، واحتكارات الاستيراد.
تتحضّر قوى السلطة ورأس المال اليوم لاتّخاذ قرارت مؤلمة للشعب اللبناني، وإن نجحوا بفرضها دون مقاومة شعبية جديّة قادرةٍ على هزيمة مشاريعهم عبر المواجهة المباشرة في الشارع، ستصل مستويات الفقر والبطالة إلى معدلات مخيفة، وستقضي على الطبقة الوسطى وتدفعها نحو حافة الفقر، فيما ستجرّ الطبقة العاملة والفقراء نحو حافّة الجوع. وقد كشف الصحافي محمد زبيب منذ أيّام أنّ القرارات التي تنوي الحكومة العتيدة المقبلة اتّخاذها بالاتفاق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف تتمحور حول:
1. منح صلاحيات استثنائية لحاكم مصرف لبنان، أو إصدار قانون في مجلس النواب، لتشريع مصادرة الحسابات المصرفية الصغيرة والمتوسطة والأجور والادخارات بالليرة وصناديق الضمان الاجتماعي والتعاضد والنقابات المهنية وغيرها، والذين تريد الاوليغارشية الحاكمة تحميلهم الخسائر المحققة في المصارف وتسديد كلفة إنقاذ المصارف مرة جديدة.
2. تكريس نظام سعرينللصرف، ومحاولة استعمال السعر غير الثابت في عملية تخفيض القدرات الشرائية ورفع اسعار الاستيراد وتقليص الحاجة إلى الدولارات لتمويل العجز التجاري، حيث وصلت خسائر سعر صرف الليرة إلى حوالي 60% من قيمتها قبل 3 أشهر.
3. التفاوض على برنامج مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على قروض لانقاذ الدائنين وكبار المودعين، وضمان تسديد مدفوعات الفائدة على الديون السابقة والديون الجديدة، عبر فرض المزيد من سياسات التقشف وتخفيض الأجور وضرب نظام التقاعد في القطاع العام وزيادة الضرائب على الاستهلاك وحصر الاستثمار في البنية التحتية بعقود شراكة مع المستثمرين من القطاع الخاص. وكذلك عبر إطفاء جزء من الدين عبر الخصخصة وبيع ممتلكات الدولة وعقاراتها وما تبقى من مؤسسات ومرافق مربحة، أو من خلال عملية "قص شعر" تشمل الودائع الصغيرة من 75 مليون ليرة وصعوداً وتساويها بالودائع الضخمة، بدل أن تشمل بشكلٍ تصاعدي الودائع المتوسطة والكبيرة التي تفوق قيمتها نصف مليار ليرة مثلاُ.
4. مواصلة تسديد سندات الدين والفوائد بالعملات الأجنبية للدائنين الأجانب، على حساب تأمين الدولارات لتوفير السيولة المحلية، والتفاوض مع المصارف المحلية فقط لاستبدال السندات وشهادات الايداع بالعملات الاجنبية المستحقة في هذا العام والتي تبلغ 3 مليار دولار عدا الفائدة، بسندات ذات آجال أطول وبأسعار فائدة أعلى من السندات المستبدلة.
ستكون هذه القرارات ذات مفاعيل كارثية، وستعيد تحميلنا أكلاف الانهيار الصعبة. قراراتهم وقمعم واستخفافهم بالناس، كلّها تؤكد أنّهم تحالف طبقيّ واحد متآلف متكاتف، صلب ولا تخرقه خلافات الولاء للخارج والإقليم، ولا صراعات 8 آذار و14 آذار على الحصص والنفوذ. هم طينة واحدة، لن تتفكّك إلا تكسيراً.
إنّ المواجهة خيارٌ حتميّ لتفادي تحمّل تبعات نهبهم واستغلالهم، ولا بدّ من تنظيم هذه المواجهة الشعبيّة التي ستكون قاسية في ظلّ إمساك قوى السلطة ورأس المال بالجهاز الأمني والقضائيّ، وبميليشيات من الشبيحة. إنّها معركة حياة أو موت لنا، كما هي لهم ولا مجال أمامنا إلّا بكسرهم وتحميلهم هم تكاليف الانهيار كاملةً.
تصير انتفاضتنا ثورةً عندما تسعى بكل الوسائل المتاحة، لقلعهم جميعاً ورميهم في البحر. هذه هي آداب الثورة و"أتيكاتها". لن يكون تغييراً دون جذريةٍ مفرطة. لا استبدال أسماء ولا تلميع صور ولا تغيير ولاءات، ولا حكومات مستشارين، ولا وزراء أزلام للأصيلين سيجدي نفعاً. سيدفعون ثمن سياساتهم من حساباتهم ذات الأرقام الطويلة، وليس من حياتنا الشاقّة وقوّة عملنا المنهوبة. حكومتهم الجديدة الأخيرة نسخة عن الحكومات السابقة، بذات السياسات وذات البرنامج، وستتبنى السياسات المعادية للشعب ذاتها. استبدلوا الوزراء الأصيلين بالوكلاء، لكنّ سياسة حماية رؤوس المال وتأبيد النظام الطائفي الزبائني ستبقى سياسات أصيلة ثابتة.
* د. عمر الديب: مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني