كل عام وأنتم بخير، رفاقاً وأصدقاء من قطاع الشباب والطلاب ومجموعات شبابية أخرى، تقتحم المصارف وتقوم بفضح فساد إداراتها أمام الرأي العام ومنعها من سرقة أموال صغار المودعين وإجبارها على صرفها مع رواتب وأجور الموظفين المحتجزة لديها.
كل عام والوطن بخير، ما دامت الانتفاضة بخير وما دام شعبنا مصمّماً على إنجاز مَهمّته التاريخية في فرض عملية التغيير رغم كل الصعوبات والحواجز، فلا شيء بعد اليوم قادرٌ على الوقوف بوجهه، فالانتفاضة لن تتراجع ولن يخرج المنتفضون من الشوارع والساحات إلّا وقد انتصرت إرادتهم وتطلّعاتهم في ولوج باب التغيير الحقيقي وفتح الطريق لقيام دولة وطنية مدنية وعلمانية وديمقراطية تستجيب لأحلام الشباب والشابات، لأحلام العمّال والأُجراء والموظفين والمزارعين، أحلام مختلف الشرائح الاجتماعية الدنيا والمتوسطة المُصمّمة على الخلاص من سلطة تحالف الرأسمال والريع وأمراء الطوائف، سلطة المحاصصة والإفقار والتجويع والتهجير.
لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء مهما أمعنت السلطة في محاولاتها اليائسة بضرب الانتفاضة بعدما حقّقت ما حقّقته من إنجازات على مستوى الوعي السياسي للقضية الوطنية والاجتماعية لدى شعبنا وفي فرض دورها بوصفها لاعباً سياسيّاً جديداً لم يعُد بالإمكان تجاوزه في الحياة السياسية اللبنانية.
هناك زلزال سياسي أحدثته الانتفاضة، والجريمة الكبرى التي ترتكبها السلطة السياسية تكمن في رفضها الاعتراف بالواقع الجديد وفي الحد من حجم الخسائر والمخاطر التي تهدّد الوطن جرّاء هذه المكابرة. فهي ما زالت تتهرّب من تحمّل المسؤولية وتلقي بتبعات الانهيار المالي والنقدي على عاتق الأغلبية الساحقة من اللبنانيين وتهدّد كعادتها بأخذ البلاد إلى الفوضى والحرب الأهلية حفاظاً على مصالحها الطبقية وعلى ديمومة نظامها السياسي وتبعيّته إلى شبكة النظام الرأسمالي العالمي فهي:
أوّلاً، لم تحقّق شيئاً لتاريخه من مطالب الانتفاضة على المستويات كافة رغم تسارع وتيرة الانهيار وتراجع تصنيف لبنان الائتماني حيث لم يبقَ سوى درجتين فقط لإعلان لبنان دولة مفلسة، فيما نراها في المقابل تخضع للتدخلات الخارجية والضغوط الأميركية المالية والنقدية، فتوافق بأطرافها كافة على الورقة المُسمّاة إصلاحية لمؤتمر «سيدر» التي ليست سوى المدخل للائحة المطالب الأميركية التي تفاوض حولها مع الموفدين الأميركيين، وكان آخرهم ديفيد هيل. وفي مقدمة هذه المطالب يأتي موضوع ثروتنا النفطية والغازية التي يمارس الأميركي ضغوطاته بهدف سرقتها مع العدو الصهيوني تحت غطاء ترسيم الحدود البحرية. وتطول لائحة المطالب في فرض توطين اللاجئين الفلسطينيين تنفيذاً لصفقة القرن، وفي منع عودة النازحين السوريّين لعرقلة الحل السياسي في سوريا، وفي ضرب موقع لبنان المقاوم للعدو الصهيوني وللمشروع الأميركي في المنطقة. هذا فضلاً عن المطالبة بالإفراج عن العميل عامر الفاخوري الذي قطعت حوله المفاوضات مع السلطة السياسية شوطاً بعيداً، بدل أن تعمد الأخيرة لإنزال حكم الإعدام به وبالخونة من أمثاله الذين تمّت إعادتهم إلى الوطن تحت مُسمّى «مبعدين»، وهم الذين تعاملوا مع العدو الصهيوني أثناء الاحتلال وقاموا باغتيال المقاومين وتعذيب الأسرى والمعتقلين.
ثانياً، مضاعفة إجراءاتها في ضرب الانتفاضة عبر قطع الطرقات ووضع شارع بوجه شارع والحرق المتبادل للمراكز الحزبية السلطوية والاعتداءات على الساحات وإطلاق الشعارات المذهبية: شيعة، شيعة، وسنّة سنّة، واستخدام بدعة «الميثاقية» ونظرية «الرجل القوي» في مذهبه، واستخدام المؤسسات الدينية ومرجعيّاتها في الحياة السياسية والوصول إلى السلطة وإطلاق التهديدات واستخدام القمع المفرط ضد المعتصمين والمتظاهرين واعتقالهم وتعذيبهم.
ثالثاً، استخدام الاستشارات النيابية والتكليف والتشكيل الحكومي عنواناً لأخذ المناخ السياسي بعيداً عن مطالب الانتفاضة والتغطية عليها بالشحن الطائفي والمذهبي، كي تصبح خلافات أطراف السلطة حول الموضوع الحكومي، تكليفاً وتشكيلاً ومحاصصةً، هي الأهم، وهي التي يجب أن تحتل الأولوية لدى الناس على حساب معاناتهم وفقرهم وجوعهم. فلا شيء تغيّر في طريقة التكليف وتسمية حسّان دياب رئيساً للحكومة، ومن دون معرفة رؤيته حول برنامج الحكومة ومواصفاتها. وما أعلنه عن تشكيل حكومة أخصائيين ومستقلّين يتناقض مع طبيعة الاستشارات التي يجريها، سواءً مع بعض المستوزرين ممّن يدّعون تمثيل الانتفاضة، والتي أعلنت الانتفاضة رفضها لهم، وسواءً في استشاراته مع أطراف السلطة التي قامت بتسميته وهي تتصارع اليوم وتتبادل التهم في ما بينها حول توزيع الحصص والتسميات والحقائب الوزارية. وفي ظل هذه الأجواء، يزداد الشحن الطائفي وشدّ العصب المذهبي ودعوات النزول إلى الشارع مطلع العام الجديد لوضع شارع ضدّ شارع تحت عنوان «سعد أو لا أحد»، بما يعيدنا إلى المربع الأول خدمةً لمصالح أطراف السلطة جميعها في ضرب الانتفاضة.
لكلّ هذه الأسباب، كان موقفنا باعتبار تكليف حسان دياب رئيساً للحكومة لا يغيّر من موقفنا باستمرار الانتفاضة وتصعيد المواجهة الشعبية ضدّ هذه السلطة، في حين أصبحت عملية تغيير قواعد النظام السياسي الطائفي تعبّر اليوم عن حاجة موضوعية ماسة لمعالجة أزمة النظام الذي يتّجه نحو الاحتضار السياسي والاقتصادي وسط حال الشلل الذي يضرب مؤسّساته الدستورية كافّة. وهو ما يطرح أمام قوى التغيير الديمقراطي مهمة إنقاذ الانتفاضة التي دخلت شهرها الثالث، في حين ما زالت ترفض السلطة تحقيقَ مطالبها وتسعى لضربها وإخضاع المنتفضين لسلطة أمراء الطوائف ودفعهم للهجرة إلى الخارج تسهيلاً لإقامة أشكال من الفدراليات المذهبية بما يحاكي مشروع الشرق الأوسط الجديد.
وهذه المهمة الإنقاذية تتطلّب تضافر كل الجهود للنجاح بوضع استراتيجية سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة الشعارات والأهداف والبرنامج ووسائل العمل، فيكون حدّها الأدنى إحداثَ خرقٍ في النظام السياسي الطائفي، وحدّها الأقصى تحويل الصيرورة الثورية للانتفاضة إلى ثورة سياسية واجتماعية تسقط النظام السياسي الطائفي بالكامل وسط تصاعد تداعيات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وما سينتج عنه من حال الفقر والعوز والجوع وتفشي الجريمة والفوضى وانعدام النظام العام، حيث لن ينفع حينها حلّ المشكلة عن طريق توزيع المساعدات الغذائية والعينية من هذا الزعيم أو ذاك ولا من هيئات ومجموعات المساعدات الخيرية.
إنّها مهمة تاريخية على قوى التغيير الديمقراطي أن تتحمّل مسؤولياتها وأن تسعى جاهدة لتجميع قواها خلف هذه الاستراتيجية بما يكفل تعديل ميزان القوى القادر على إنجاز هذه المهمة. هكذا نفهم القول بأنّ ما قبل 17 تشرين الأول ليس كما بعده. فانتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأوّل هي عنوان الانتصار لمفهوم المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 أيلول في التحرير والتغيير. وما يجمع 16 أيلول و17 تشرين الأول هو القضية الواحدة، قضية التحرّر الوطني والاجتماعي لشعبنا، الذي به يخوضُ صراعَه الطبقي ضد الاضطهاد الامبريالي من الخارج وضد الاستغلال الطبقي الذي تمارسه سلطة الرأسمال والريع من الداخل.