بعد هذه النكسات، بدأت الحركة النقابية بإستعادة أنفاسها ببطئ، ولو أن معظم النقابات كانت، ولا تزال، تخضع لأحزاب السلطة المذهبية. شكلت إنتفاضة ١٧ تشرين نقطة مفصلية في تاريخ الحركة النقابية، فالحالة الشعبية التي نجمت عن الانتفاضة أمنت جوّاً مناسباً لإعادة تشكيل عنصر علماني وتقدمي في نقبات المهن الحرة بشكل خاص (محامين، مهندسين، أطباء، وأطباء الاسنان والصيادلة). مع ذلك، لم تكن النقابات التي استعادها الشعب بمنأى عن حروب الاوليغارشية الشعواء التي تُشن على الطبقات الشعبية اليوم، بغاية تحميلها عبئ الخسارة العامة في البلاد.
كما كافة المودعين، للنقابات أموال في المصارف، هي أموال اشتراكات ورسوم المنتسبين اليها، والتي توضع بصناديق من أجل دفع مستحقات الضمانات الصحية والتقاعدية للمتقاعدين المنتسبين الى النقابة وغيرها. ويجدر الذكر في هذا السياق أن ما يقارب 20 ألف أسرة تستفيد من صناديق المهن الحرة، من المنتسبين وعائلاتهم، حرمانهم منها يعني تهديد شريحة كبيرة من المجتمع بلقمة عيشها وقوطها اليومي.
لنأخد مثل نقابة المهندسين، التي هي من كبار المودعين في المصارف. الى يوم النشر، ما زالت المصارف تحتجز 500 مليون دولار تقريباً، هي أموال النقابة، وهي ملك لما يقارب 60 الف مهندس ومهندسة يستفدون منها هم وعائلاتهم. فلا داعي اذاً للتوسع في المزيد من الشرح لفهم التداعيات الكارثية لهذا السطو التي تمارسه المصارف على أموال النقابات، Hold up على طريقة رعيان البقر في الويستيرن الاميريكي.
إعتدنا أيضاً أن تنهمر علينا حجج الاوليغارشية الحاكمة من أجل تسخيف أو تخفيف وطأة جرائمهم بحق الشعب. يقول البعض بطريقة ساذجة "ما بال هذه النقابات فهي ربحت وإكتسبت الكثير من الأموال وهي غنية ربما أكثر من المصارف"، هذه المقولات الأيديولوجية وظيفتها الأولى والاخيرة تشريع سرديات الطبقات الحاكمة، هي بأصلها مزعزعة ومتخلخلة تسقط شر سقوط أمام التدقيق والبحث العلمي. في العام 2018، أي قبل الازمة بعام، كانت أرباح المصارف تخطت ٣ مليارات دولار بينما مجمل ودائع نقابة المهندسين لا تتجاوز عتبة الـ 500 مليون دولار. أرباح المصارف توازي اذاً ثماني مرات مجمل ودائع النقابة. نرى هنا أنه خلال سنة واحدة تجاوزت أرباح القطاع المصرفي كل ما تمتلكه نقابة المهندسين، فيما وصلت خسارة النقابة 88% من أموالها الدفترية والفعلية التي أصبحت تساوي 63 مليون دولار تقريباً.
فلا يفكر أحد أن بإستطاعته تحوير المزاج والرأي العام بإغداق الساحة بأكاذيبه والاعيبه، سنكون له بالمرصاد بالرقم والحرف، مستعدون لهدم هياكل كذبهم بكل ما وصلتنا من معلومات وأرقام.
أما بما خص نقابة أطباء الاسنان، فمدخرات النقابة تصل الى 56 مليون دولار في المصارف، إنخفضت هذه المدخرات الى 8 مليون دولار فعلياً بفعل اجرائات المصارف التعسفية. هذه الأموال التي تسلطت عليها المصارف والتي إبتلعها الوحش المصرفي يستفيد منها 6000 طبيب وطبيبة أسنان وعائلاتهم. هذه الأرقام التفصيلية تدل على هول المجزرة الاجتماعية التي تجريها المصارف، لا يمكننا الا وصفها بعملية تطهير طبقي تمارسها الاوليغارشية بقوتها الضاربة جمعية المصارف وحاشيتها.
معطم النقابات نُكبت من إجرائات المصارف، لا بل أصبحت في العبارة الشعبية عالحضيض والخسارة لا تقتصر على خسارة شخص معنوي فقط، بل هي فعلياً خسارة الوف المهندسين والأطباء والكوادر، الذين ما زالوا صامدين في عاصفة البلاد. أما نقابة المحامين فلها تقريباً 70 مليون دولار في المصارف يستفيد منها المحامين وعائلاتهم كافة، وباتت تساوي اليوم فقط 10 مليون دولار فعلي، أي مُنيت إحدى أكبر وأهم النقابات في البلد خسارة كبيرة جداً بنسبة 85%.
مع كل هذه الخسارة لا يمكننا التغاضي عن اوضاع البلاد التي تزيد سوءً... فاموال المهنيين والناس تتبخر والاسعار تتزايد بشكل جنوني ولاعقلاني. وصل التضخم الى أوجه. فصح تضحم الأسعار بين كانون الثاني 2019 وتموز 2021، بأرقام مخيفة تصدم المرء عند قرائتها. المواد الغذائية والمشروبات الغير كحولية ارتفعت بنسبة 1352%، بينما ارتفعت أسعار الألبسة والاحذية بنسبة 1539%. أما أسعار المسكن من ماء وكهرباء ومحروقات، إرتفعت بنسبة 85%، والايجارات بنسبة 18%. تنذر هذه الأرقام بالفناء والكارثة الاجتماعية. أما قطاع النقل فله حصة الأسد فارتفع بنسبة 634%، والاتصالات 152%. أما أسعار الاستجمام والتسلية والثقافة ارتفعت قيمتها 449%.
إن دلت هذه الوقائع على شيء، فهي تدل على إستخفاف الاوليغارشية بردة فعل الطبقات الشعبية والطبقات العاملة. هذه طبقة تستخف بالعمال وبمستقبلهم وتنظر اليهم نظرة فوقية، كشرائح قاصرة غير قادرة على الرد والدفاع عن مصالحها. وفي إتصال مع نقيب المهندسين عارف ياسين، فضل عدم الادلاء بأي تصريح في الوقت الحالي، مؤكداً ان خطوات مهمة ستتخذ في المستقبل دفاعاً عن أموال المهندسين. اذاً يمكننا اليوم استخلاص درس من كل هذا، فهو ضرورة ان تتحد مختلف شرائح المجتمع العاملة من محامين ومهندسين وأطباء وعمال وحرافيين...
في مواجهة العصابة الحاكمة التي تلعب بمصائرنا حسبما تشاء غير ابهة بحق الناس بالعيش الكريم وبالمستقبل المزدهر والرفاهية. تحتقر هذه العصابة الاوليغارشية أبناء هذه الطبقات الكادحة، وتستخف بقدراتها، فيا عمال لبنان إتحدوا في وجه العصابة التي تنهش من لحمكم. من واجب كل فردٍ منا اليوم دعم حملة "وين صندوقك"، التي تحشد النقابيين والعمال في مواجهة عصابات القتلة التي تحكمنا. ونحن الان على أبواب إنتخابات نقابة المحامين، التي نستبشر منها خيراً، فحملة نقابتنا بدأت بالعمل من أجل نقابة تكون المدافع الأول عن حقوق الناس والطبقات المهمشة ولتوطيد وتثبيت رسالة المحاماة التي هي الدفاع عن الحق والحقوق.
بدأت المعركة يا سادة، معركة حاسمة في تاريخنا الحديث، معركة بين النقابة والعصابة فالنحتشد ولنتوحد دفاعاً عن أنفسنا وعن مستقبل أجيالنا الآتية، رفضاً للظلم والطغيان والنهب الممنهج الذي يمارس بحق عملنا وتعبنا.