تُغيّب معظم الأحزاب اللبنانية، إن لم تكن جميعها، المسألة النفسية من أدبيّاتها. تغيّبها من النقاش- وتستحضرها في أساليب السيطرة على القاعدة الحزبية، لا سيّما الفئة «الأنشط» نفسياً، أو للدقّة التي لا تزال تشكّل وعيها وتجربتها وترتّب جهازها النفسي، أقصد فئة الشباب.
وقد يبدو الربط الأكثر تماسكاً ما بين المسألتَين النفسية والسياسيّة هو ذاك الذي صاغه الفرويدو-ماركسيّون، وأوّلهم المفكّر وليام رايخ، وقاعدته التي تكثّف هذا الربط وتحدّد عناصره: الكبت الجنسي يساهم في بناء الشخصية اللازمة للإبقاء على النظام الاجتماعيّ التسلّطي والأبويّ.
بقراءةٍ كلاسيكية، تُجدّد الأنظمة سيطرتها عبر السيطرة على علاقات الإنتاج، والبنى الاجتماعية الناتجة عنها، والصراع الناظم لها، من سياسةٍ واقتصادٍ، وإيديولوجيا ودعاية وعسكر… لكن في الواقع يُضاف إلى ذلك تفصيل ليس ببسيط، تكتيكٌ تلجأ له الأنظمة لتسهيل إعادة إنتاج الحكم: تبئيس الأكثرية.
التبئيس: من بؤس، والفعل بَأَّسَ/ يُبَئّسُ. وللفعل فاعل. أي أنّ هناك من يُبَئّسنا. هناك من يفرح حينما نحزن. وهذه مسألة سياسية حتّى العظم، وتحمل تداعياتها لاحقاً على المستوى النفسيّ. التبئيس، مفتاح القبول بالسلطة. وقبول السلطة يعني الامتناع عن التمرّد. التبئيس، قاتل الموجات الثورية.
قبول السلطة يبدأ من المنزل، سلطة الأب بدايةً. يمهّد ذلك لقبول السلطة بالمعنى الأوسع، سلطة السلطة. جهاز السلطة أقصد. من هنا مداراة أحزاب السلطة لشكل العائلة النواتيّة، وتنطّح المؤسّسات الدينية في تقديس هذا الشكل من العائلة. ومن هنا واجب اليساريّين في هدم هذه العائلة.
تُغيّب الأحزاب المُحافظة والرجعية النقاش النفسي عن الفئة الشابّة، لكنّ القيادات يعلمون عَين العلم بهذه المسائل. فيُوظَّف النفسيّ في خدمة الصورة التسلّطية للسياسة، وفي خدمة احترام السلطة والخضوع لها، ويُعطف ذلك على توجّه عام لتسطيح الوعي وتغييب النقد، وقبول المألوف ورفض الاستثنائي، والاصطفاف إلى جانب القوي وتهميش المُهَمّش كمصدر للشعور بهذه القوّة، ومن هنا تُعزَّز الهوموفوبيا والذكورية والفوقية… وتتسلسل الخِصال المُقيتة لتلك الأحزاب إلى ما لا نهاية. إنّ التعاطي الرجعي مع المسألة النفسية تجعل من هذه الأحزاب أحزاباً فاشية، بالمعنى الدقيق للكلمة.
والجماهير الفاشية تعتاش بشكلٍ خاص على الكبت.
من هنا مثلاً، يعتاز حزبٌ يمينيّ كحزب الله إلى تنفيسة ما بعد الكبت، بعدما ألزم شبابه بقواعد غيبية لا تبرير ماديّ لها، وبعدما عوّد شابّاته على الرضوخ لكافة أشكال السلطة، وبعدما وبعدما… يعتاز تنفيسة على المستوى النفسي، كعقد المتعة مثلاً- وهذا ليس تفصيلاً أو باباً للتهكّم، بل مسألة سياسيّة بامتياز. يحتاج إلى تنفيسة تجد طريقها إلى النفس من النكات الذكورية إلى العسكرة، فضلاً عن تأليه القادة بشكلٍ أبوي… وقد تكون الصورة الأشد قبحاً لتنفيس الكبت هي القتل.
(طبعاً السلوكيات التسلّطية ذاتها توظّفها باقي الأحزاب، ولو اختلف الشكل- تمجيد الأب الشهيد في تيّار المستقبل باعتباره أب الطائفة، وتسمية ميشال عون «بي الكل» في التيار الوطني الحر، والبعث الصغير النامي في نفوس شباب القوّات اللبنانية، وهلمّجراً…).
مقابل ذلك، يُفتَرَض أن تستحضر الأحزاب التقدّمية الخطاب النفسي بكل الطرق، وبأكثرها ديموقراطيّةً وتحرّراً، لا سيّما من المدخل الأقرب إلى الشباب: التحرّر الجنسي، بالمعنى الأوسع للمفهوم.
أقصد بذلك جملةً من الممارسات: التحرّر من سطوة القواعد الاجتماعية ومن سطوة الأنا-الأعلى؛ والتمرّد على كل أشكال السلطة- من الأب إلى رئيس الجمهورية؛ والاتّكاء على الثقافة والفنون كشكل من أشكال التعلية/ الإعلاء؛ والنضال العسكري لا العسكرة، كوسيلة لا كغاية، وسيلة لمناصرة الضعيف لا للتهليل للبراميل المتفجّرة؛ ورفض الأورثوذوكسية الفكرية… وصولاً إلى التحرّر الجنسي بالمعنى البسيط للكلمة.
وهنا المهمّة التاريخية الواقعة على قيادة هذه الأحزاب —المفترض بها أن تكون تقدّمية— في ربط الباب النفسيّ عند الشباب بالنضال السياسيّ أي: تسييس الطموح نحو السعادة، بكلمات وليام رايخ.
وهذا ما يتطلّب حنكةً في صياغة المطالب والشعارات. لم يكن تفصيلياً مثلاً، مطالبة الشباب المُتمرّد في أيّار 68 في جامعات فرنسا بمطلبَين واضحَين ومباشرَين ومرتبطَين بشكلٍ أو بآخر: 1) ضمّ الذكور والإناث إلى نفس المساكن الجماعية (ما سيُوَسّع لاحقاً ليصبح شعار «الحرية الجنسية»)، و2) وقف الحرب على فيتنام.
مسألة خاصة ومسألة عامة، مسألة فردية ومسألة جماعية، مسألة داخلية ومسألة خارجية، مسألة نفسية ومسألة سياسية. هذه هي السياسة، إيجاد الديالكتيك بين تلك المسائل.
وبين الممارسات والشعارات، أذكر مسألة السكن- خفض الإيجارات وتحرير المساكن من أجل السماح للشباب أن يغادروا منزل ذويهم باكراً، للإسراع في التخلّص من السلطة الأبوية المباشرة، ولفتح الباب على ممارساتٍ شبابيّة حرّة، غالباً ما يصعب القيام بها تحت رقابة الأهل؛
المسألة المعمارية- الحقّ في المدينة، وفي المساحات الجامعة، وفي الساحات العامة الآمنة، (الآمنة من التحرّش مثلاً)؛
خفض سن الاقتراع وتعديل قوانين الأحوال الشخصية؛
تقويض سلطة المؤسّسات الدينية؛
تعديل المناهج الدراسية وإدخال التوعية الجنسية إليها. هذا المطلب مثلاً، هو أدنى ما يمكن لقطاع شبابٍ أو معلّمين في حزبٍ شيوعي أن يطالب به في لبنان. فالتجهيل، التجهيل الجنسي بالتحديد، يخدم سطوة السلطة على الجهاز النفسي للمراهقين والشباب، ولا سيّما الإناث منهم.
أمّا بعد…
فالنظرية تطول، لكن يبقى أن أحزاب لبنان، من دون استثناء، أحزابٌ بائسة، عدوّة للفرح وللشباب. والشباب المُقيم في لبنان شبابٌ مُبأَّس، بشكل مقصود، وفق منهج «تبئيس الأكثرية» المذكور آنفاً. وهو مُبأَّس بفعل الانهيار، ومُبأَّس بفعل وراثة تروما الحرب الأهلية، وبفعل البطالة، وبفعل غياب المساحات العامة وسبل الترفيه…
لكنّه، على وجه الخصوص مُبأَّس، لأنّه لم يجد بعد حاضنةً سياسيّةً تنادي بهمومه اليوميّة، وتُناشد النضال من أجل التحرّر والسعادة بالتوازي.