مفارقة باخموت ... أين يكمن السر؟

تستمر قوات فاغنر بطحن الجيش الأوكراني في باخموت، ومع ذلك يستمر زيلينسكي بإرسال قوات جديدة إلى مفرمة اللحم هذه، التي تحولت إلى هوة سحيقة تمتص قوات النخبة في أوكرانيا.

منذ الـ 20 من ديسمبر الماضي إستعند و استمسك زيلينسكي في باخموت. ويستمر القتال بين الطرفين، وكأنهما يستمتعان بذلك منذ أكثر 4 أشهر، دون أن يتمكن أي منهما من إنهاء المعركة!
ليس لباخموت أهمية استراتيجية كبيرة، ففي محيط باخموت توجد البلدات والمدن التالية: سيفيرسك، سلافيانسك، كراماتورسك، كونستانتينفكا، دروجكوفكا، تشسوف يار، والتي تشكل ما نسميه (حلقة الدونباس)، فهي بدون أدنى شك حصن عسكري متين، إلا أن السيطرة على باخموت لا تمنح نصراً حاسماً لأي طرف من الأطراف. ومع ذلك، تستمر القيادة الأوكرانية بالجدل حول أهمية التمسك بباخموت، حتى تكاد تتحول إلى رمز مقدس!
تخالف القيادة الأوكرانية أبسط بديهيات الحرب، التي يعلمها أي قائد عسكري، و التي تتمحور حول قيام القوات بإجراء مناورة والضرب في مكان لا يتوقعه العدو بهدف تشتيت قواته و إضعاف بعض المناطق في دفاعاته، التي ستسهل عمليات الانقضاض اللاحق عليه. ومع ذلك، ترسل أوكرانيا باستمرار العديد من القطع العسكرية نحو باخموت، فتخسر عشرات الآليات العسكرية و الأفراد هناك دون أن تشعر بأي مشكلة في ذلك، إلى أن تحول الطريق إلى باخموت إلى طريق للموت.
قامت أوكرانيا بجمع 200 ألف جندي، جميعهم تلقى تدريباً جيداً لمدة 2-3 شهراً، وهم مستعدون للقيام بالمهمات العسكرية. عدد الآليات العسكرية والذخائر كاف لقيام هذه القوات بهجوم مضاد على المناطق التي ضمتها روسيا. إلا أن هذا الهجوم المضاد تأجل 5 مرات، أعلنوا عنه في 20 من ديسمبر، ومن ثم الأول من يناير، وبعد ذلك 24 من فبراير، ثم قالوا 3-5 أبريل، و كان الموعد ما قبل الأخير هو 15 أبريل، و بعد ذلك الإدعاء بتسريب الوثائق العسكرية الأمريكية تم تأجيل الهجوم المضاد إلى الصيف، بالرغم من أن تلك الوثائق ليست استراتيجية و لا تتضمن أي معلومات ضارة بالقوات المسلحة الأوكرانية. علاوة على ذلك، سيكون القيام بالهجوم المضاد قبل حلول ذكرى النصر في الـ 9 من مايو أكثر إيلاماً لروسيا!
فأين يكمن السر في كل يجري؟
لقد طرح الكثيرون السؤالين التاليين:
لماذا تأخر الحسم العسكري في باخموت؟
ألهذه الدرجة هذه المدينة هامة؟
من الناحية السياسية، تشكل باخموت عاملَ زعزعة للنظام السياسي الأوكراني؛ فكل خسارة، سواء في العتاد أو الأفراد، تضرب مباشرة سمعة ومكانة القيادة السياسية والعسكرية في كييف!
بالنسبة لروسيا، يمنحها بطء العمليات العسكرية في أوكرانيا وقتاً كافياً لـ:
-تحسين انتشار وتمركز قوات الجيش الروسي في أماكن أفضل من الناحية العسكرية.
-حل بعض المشاكل الداخلية التي أفرزتها الحرب.
-تدريب القوات التي تمت تعبئتها.
-إعادة تأهيل المناطق التي ضمتها روسيا.
يعلم كل من يتابع الأزمة الأوكرانية أن التخطيط الاستراتيجي يجري في وكالاتي الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، أما العمليات التكتيكية فهي متروكة للقيادة الأوكرانية.
لذلك فالغرب هو من يقوم بتأجيل الهجوم الأوكراني المعاكس، وهو من يحاول إقناع زيلينسكي بتأجيل هذا الهجوم دائماً. وهذا ما يفسر الخلاف المستمر بينه و بين قائد الجيش، الجنرال فاليري زالوجني. فقائد الجيش يرسم خططاً عسكرية دقيقة، مبنية على الوقائع في الميدان. أما زيلينسكي فدأب منذ بداية العملية العسكرية على رسم صورة أمام الرأي العام الغربي، بهدف استجرار أكبر كمية من السلاح لتحرير الأراضي التي ضمتها روسيا.
شجع الغرب كثيراً زيلينسكي على القيام بهجومات معاكسة ضد القوات الروسية، فاعتقد الأخير أنه يحقق الانتصارات الساحقة. وبعد انسحاب القوات الروسية من خيرسون اعتقد زيلينسكي أنه قادر على الوصول إلى موسكو. وهذا يعكس فهماً أوكرانياً خاطئاً للصراع و خلفياته و أهدافه، ولقد أشرنا إلى هذه النقطة في سياقات أخرى.
لكلا الطرفين، الأوكراني و الغربي، أهداف مختلفة، معلنة و أخرى غير معلنة، فأوكرانيا تريد تحقيق نصر على روسيا لاستعادة أراضيها، أما الغرب فيريد استمرار المعركة إلى أطول فترة ممكنة، لذلك يقدم السلاح لأوكرانيا بكميات قليلة و مدروسة بعناية.
لذلك يبرز السؤال:
كيف يمكن لأوكرانيا أن تحقق نصراً على روسيا؟
ذكرنا في الأعلى أن أوكرانيا تتحضر للقيام بهجوم معاكس ضد المناطق التي ضمتها روسيا، ويبدو أنه هو الأسلوب الوحيد لاستعادة أراضيها، والحقيقة أنه يوجد جدل كبير حول سيناريوهات هذا الهجوم المعاكس، ولكن يمكن تلخيصها في فكرتين:
الأولى، الالتحام المباشر مع القوات الروسية، وهذا يعني أنه سيتم تحطيم القوات الأوكرانية، وقد تقوم بعدها روسيا بهجوم معاكس تصل فيه إلى حدود بولونيا.
الثاني، أن تهجم القوات الأوكرانية على المدن والبلدات والقرى في تلك المقاطعات أو بعض المقاطعات الروسية الحدودية، الأمر الذي قد يؤدي إلى ترك عدد كبير من الضحايا في صفوف المدنيين. و سيؤدي هذا إلى ردة فعل عنيفة من قبل روسيا، ولا يمكن لأحد أن يتكهن بما يمكن أن تقوم به موسكو بعد ذلك.
بناءً على ذلك، فإن هذا الهجوم الأوكراني قد يؤدي إلى نتيجة عكسية تماماً، وهذا هو سبب تأجيله المستمر من قبل دوائر صنع القرار في الدول الغربية.
علاوة على إمكانية أن يؤدي الهجوم المضاد إلى نتائج عكسية، فهذا يعني أيضاً أن كل الدعم الغربي لأوكرانيا سيذهب هباءً منثوراً، وهذه النتيجة لن ترضي الدوائر الأمريكية والبريطانية، التي دخلت في هذا الصراع لهدف واحد فقط، وهو:
تحقيق نصر استراتيجي على روسيا.
ولكن، كيف يمكن للدول الغربية تحقيق نصر استراتيجي على روسيا؟
وضوحاً أنها لن تتمكن من ذلك بالحرب المباشرة، فالأرض الروسية واسعة ومليئة بالمستنقعات والغابات والبحيرات والأنهار، وستبتلع كل القوات التي قد تدخلها، فروسيا تحميها الطبيعة جيداً.
السيناريو الأقرب – هو جعل الصراع بطيئاً، مع محاولة التأثير على وعي الناس في الداخل الروسي نفسه، و على أقطاب المعارضة الروسية في الخارج.
فالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تراهنان على تعب المواطنين من الحرب و العقوبات، وبالتالي تأجيج الرأي العام ضد القيادة الروسية، الأمر الذي قد يقود في النهاية إلى انشقاقات داخلية في صفوف النخبة الحاكمة، وبالتالي إحداث فوضى في البلاد.
فهناك فئة في المجتمع لا تفكر لا بالدولة ولا بالشعب، بل غاية ما تسعى إليه هي المكاسب الخاصة، التي تتجلى بـ: المكانة الاجتماعية، رأس المال، الراحة الشخصية. وهذه الفئة أكثر ميلاً للإصغاء لـ (رأي الآخر) و مستعدة لتقديم التنازلات مقابل الحفاظ على هذه المكاسب.
ولكن، لم تطرح الدوائر الغربية الأسئلة الملحة التالية:
ما هو الوقت اللازم لتحقق مثل هذا السيناريو؟
هل أوكرانيا قادرة على تحمل هذه الكلفة البشرية الكبيرة وحدها، أم أنه من الضروري زج بعض الدول الأوروبية الشرقية في هذا الصراع أيضاً؟
لا يمكننا حالياً تقديم الكثير من التنبؤات، ولكن الواقع يؤكد أننا ذاهبون إلى مزيد من التصعيد، الذي قد تمتد جبهته إلى خارج أوكرانيا، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية. فهل ستلجأ الولايات المتحدة إلى إشعال حرب عالمية للخروج من أزمتها الاقتصادية؟
لسوء الحظ، كل المؤشرات تؤكد أننا ذاهبون في هذا الاتجاه، و لكن أتمنى أن نكون مخطئين بهذه التنبؤات، لأن هكذا حرب ستترك دماراً شاملاً في كل العالم.

  • العدد رقم: 414
`


آصف ملحم