إن علاقة موضوع حقوق الإنسان وعلى الأخص علاقة حرية التعبير بالانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، هي علاقة تماس و ترابط واحتكاك بالعولمة. [2[ فحرية التعبير، ومواقع التواصل الاجتماعي آليتان تتجاوزان إطار الدول الأمم، ولكلٍّ منهما خصوصياته، فحرية التعبير وحقوق الإنسان محكومة بفضاء إنساني، وتصوّر حقوقي، في حين أن مواقع التواصل الاجتماعي محكومة بما هو تقني تكنولوجي، ولا يهمّها ما هو إنساني، لذلك يطرح كيف يمكن التوفيق بينهما، بما يجعل الأولى لا تتغوّل، فتتعسّف عند استغلالها لما تتيحه الثانية من قوّة الانتشار، وقدرة الإفلات من المراقبة.
القانون المطبّق على مواقع التواصل الاجتماعية: بين المسؤولية وحدود التعبير الحرّ
هناك إشكال قويُّ الحضور مرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي، وبالقانون المطبّق عليها، فما دام الأنترنت هو وسيلة اتصال وإعلام مثله مثل بقية الوسائل الأخرى السمعية البصرية والورقية، فإنه قد يطبّق عليه القانون الخاص بالإعلام و الاتصال، فإذا ما استحضرنا القانون المغربي 77-00 المادة 38 وبقية المواد الأخرى نجده يؤكّد على تعبير "أو بكلّ وسيلة الكترونية" ومعنى ذلك أن ما ينطبق على الصحافة المكتوبة ينطبق على الإعلام الإلكتروني. [3[
إن القانون الوطني الداخلي للإعلام، وكذلك القانون الدولي للإعلام هما قانونان شاملان، وأحياناً يكونان فضفاضين، مصادرهما متنوّعة وأيضاً موضوعاتهما، ولهذا فإنّ موضوع الضبط، والتنظيم الدولي للانترنت، لم تهتم به الوثائق الدولية المنظِّمة لهذا الفضاء [كما سنرى فيما بعد] إلّا فى أمور محَدَّدة ومضبوطة، وعلى صلة بما طرأ من تحوّلات دولية بعد نشوء النظام العالمي الجديد، وبعد تيسير انتشار الطرق السيارة للانترنت. أنّه على إثر أحداث 11 ايلول/ سبتمبر صارت تظهر القوانين المنظِّمة للانترنت بكثافة، وبالخصوص القوانين الزاجرة لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في التواصل، وفي التحضير، وفي التنظيم، والتهيء للعمليات الإرهابية. [4[
وطرحت في هذا الصدد قضايا ترتبط بما كان مسجّلاً في القوانين الداخلية للإعلام والمقيّدة لحرية الرأي والتعبير، مثل السبّ والقذف، والمساس بالحياة الخصوصية وكلّما يتعلّق، بالقاصرين والإخلال بالنظام العام، وسيادة وأمن الدولة، الخ. وهي أمور غالباً ما يتمّ ترديدها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهي كلّها تدفع إلى مراقبة محتوى ما يتداول على شبكة التواصل الاجتماعي. ولكن ما هي حدود هذه المراقبة في علاقتها بالمسؤولية؟
إن مراقبة محتوى ومضمون الرسائل التي يتمّ نشرها وبثّها على الشبكة العنكبوتية التي قد تتخذ في كثير من الأحيان بعداً وطابعاً دولياً، قد نجد له جذوراً متأصلة في القانون الداخلي للإعلام، أو في قانون العقوبات، لكن، هناك إشكال يطرح بحدّة بصدد التشريعات الداخلية في هذا المضمار، و هو كونها في حاجة إلى اجتهاد وإلى جهد من أجل نسج انسجام فيما بينها، والمقصود هنا بالأساس، احترام بعض المبادئ المرتبطة بالتداول الحرّ للمعلومات[5]، واحترام القضايا الجوهرية والعميقة ذات الصلة بحقوق الإنسان، وعلى الخصوص حرية الرأي والتعبير.
ومن المعلوم أن حرية التعبير والاتصال باعتبارها حرية أصيلة لها حضور شامل وجامع على الشبكة العنكبوتية، أكثر مما هو عليه الأمر في الوسائل الأخرى[8]، وعليه فهي كأية حرية ليست أبداًىمطلقة بل محدودة ومقيّدة بموجب قواعد القانون وملازمة بشكلٍ حتمي للمسؤولية إن على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي.
فالقانون الدولي يؤكّد على نظام المسؤولية كشرط ملازم للحرية، بمعنى أنه مقابل حرية التعبير والاتصال ينتصب إلى جانبها الشرط الواقف الذي هو المسؤولية، سواء تمّ التعبير بالصحافة المكتوبة أو السمعية البصرية، أو كان عبر الصحافة الالكترونية. يتمّ التأكيد على ذلك في مختلف الإعلانات الدولية الكبرى، وفي الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، التي تتناول الحدود التي تقف عندها حرية التعبير، وهي جميعها لا تميّز بين هذه الدعامات وبين الانترنت. [6[
وهكذا، مثلاً إذا كانت الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان تؤكّد على حماية حرية التعبير وحرية الرأي والإعلام، فإن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد جاءت كميكانيزم فوق وطني أوروبي يتدخل لحماية هذه الحرية، إن لم يتمّ إنصاف المتضرّرين منها على المستوى الوطني، ويشمل ذلك الانترنت كوسيلة اتصال جديدة، الذي يخضع كذلك للمراقبة القضائية لهذه المحكمة[7]، [ ولو أنه لم تعرض على المحكمة إلى حدود منتصف الألفية الثالثة أية حالة من هذا القبيل.[
إذا كانت الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي هي المجال الحقيقي لتكريس الحريات في المجتمعات العربية ما بعد الثورات، ونقد الأنظمة السياسية الحاكمة والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن التضييق على الإنترنت الحر، وعلى هذه الشبكات بشكل خاص، هو المنفذ الوحيد للأنظمة الحاكمة حتى تُنقذ نفسها من سيول النقد والفضح بالنص والصورة والصوت في زمن الفضاء الاتصالي العالمي المُعَوْلَم المفتوح، وزمن الصحفي- المواطن.
ونفترض، هنا، أن التضييق يتمُّ عبر سياسات واستراتيجيات وأهداف واضحة المعالم، أساسها حجب المنصات الاجتماعية، أو خنقها، في دول تُعرف عادة بأنظمتها السياسية المغلَقة، ودول أخرى كثيرة توصف عادة بالديمقراطية، وذلك بهدف الحيلولة دون تدفُّق المعلومات.
ونفترض، أيضاً، أن التضييق يتمُّ عبر وضع التشريعات القانونية المُنظِّمة للتواصل الإلكتروني في وجهها الأول الظاهر، والمستهدفة ضرب الحريات في وجهها الثاني الباطني المخفي، كلما "زاغ" بها الأفراد والجماعات عن منطق "النظام العام والمصلحة الوطنية وسيادة الدولة" حسب الأنظمة الحاكمة طبعاً، بما تحمله هذه المُسَمَّيات من ضبابية في المفهوم والتفسير والتأويل ثم الاستخدام والاستغلال والتوظيف. كما يتمّ التضييق، في بعض الحالات وفي البلدان المتقدّمة في مجال تكنولوجيات المعلومات والاتصال، عبر إنشاء مواقع اجتماعية محلية تضع المجتمع المحلي في سياق مجتمع مغلَق، بعيداً قدر الإمكان عن المجتمع - العالم وعن المواطن- العالم.
القيود المفروضة على حرية التعبير: التطور والمرجعية .
ألَا يمكن أن نربط بين ما يجري اليوم من تحوّل وتطوّر في مجال حرية التعبير، بفعل تكنولوجيات الإعلام والاتصال وما عرفته حرية التعبير عن الرأي، وحرية الإعلام من حدود وقيود مفروضة عليها، في ظلِّ فكرٍ وفلسفة الأنوار؟ ألم تكن أفكار “ميلتون” منذ 1644 تنادي بضرورة فرض قيود على هذه الحرية حتى لا تتغوّل على الحياة الخاصة للأفراد، ألم يكن لأفكار “جون لوك” ورسو - و مونيسكيو وڤولتير، و”ستوارت ميل”، تأثير على فرض بعض القيود على حرية التعبير حتى لا تنتهك الحقوق الطبيعية للأفراد.[8[
لا شكّ أن المسافة الزمنية الفاصلة بين لحظة ظهور فكر الأنوار، ونشوء النظام الدولي الويستڤالي سنة 1648، الذي في رحمه نشأ مفهوم الدولة الأمة، ولحظة ظهور تكنولوجيات الإعلام و تأثيراتها على حرية التعبير وعلى الحياة الخصوصية منذ سنوات 1967 و 1968 و 1973، هي لحظات أساسية لمعرفة كيف فرضت القيود على هذه الحرية سواء على الإعلام التقليدي أو الإعلام الجديد.
وقد عرف تقنين حرية الرأي والتعبير عبر هذه المسافة الزمنية الممتدة منذ ذاك إلى اليوم 2015 تطورات وتأثيرات متسارعة لم تكن متخيلة.
إن القراءة الممعنة لأفكار ميلتون 1644، مقارنة بما جاءت به الإعلانات الثورية البورجوازية عقب الثورات سواء في أوروبا أو في أميركا، تبيّن الحدود والقيود المفروضة على حرية التعبير والإعلام، لقد كانت “وثيقة الحقوق” الناتجة عن الثورة البريطانية لسنة 1688، فيها بعض من الذي نجده في وثيقة يونيو 1776 بفرجينا، وبعض من تصريح الاستقلال الأميركي 1776، من حيث التشديد على حرية التعبير، ولكن كذلك على حدود هذه الحرية، التي ليست كليّاً مطلقة، بل محدّدة بحدود، وربما أن التصريح الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن كان أكثر دقة وتوضيحاً لهذه القيود والحدود، إن هذا الأخير شدّد على ما جاء به ميلتون بصورة أكثر تدقيق[9[
إن حرية التعبير عرفت تحوّلات وتغيّرات متتالية ما بين القرن 17 والألفية الثالثة، وقد سعت باستمرار إلى التكيّف مع واقع الفكر الليبرالي، بالخصوص مع تطوّراته الحديثة، ومع انتشار أنواع جديدة من الدعامات السمعية البصرية فالالكترونية. لقد صار الوقع القانوني المنظِّم لحرية التعبير تبعاً لذلك موضوع تطوّرات متوالية ما بين 1648، عند نشوء نظام وستڤاليا حتى تسعينيات القرن الحالي، ونشوء النظام العالمي الجديد، وظهور الطرق السيارة للمعلوميات والانترنت. من هنا تطرح تساؤلات عميقة اليوم تهمّ تنظيم وتقنين ما يجرى في ظلّ عالم، ساهم الاستخدام الكثيف فيه لوسائل التواصل الاجتماعي على إلغاء الحدود وتعطيل مفهوم السيادات، التي صارت في ظلّه عملياً بلا معنى، إذ أنها اخترقت بواسطة هذه الوسائل والتقنيات الجديدة.
معضلة هذه التكنولوجيات حالياً هو أنها، لم تكن كما كانت في السابق في ظلّ تنظيم الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية، اليوم هناك تطوّر رهيب لهذه التكنولوجيات، التي تتنامى وتتطوّر بسرعة البرق بينما أن المواكبة التشريعية القانونية لها تتطوّر بشكل بطيء وبين السرعتين بون شاسع، وبينهما تُنتهك حرية التعبير وحرية الإعلام، وتتغوّل هذه التكنولوجيات حدّ انتهاك كافّة الحقوق الإنسانية. [10[
حدود حرية التعبير على شبكة التواصل الاجتماعي
إن القوانين المنظِّمة لحرية الإعلام وحرية التعبير، والتي تهمّ مجالات الإعلام المكتوب، والإعلام السمعي البصري، تتعرّض وباستمرار لحدود هذه الحرية وللقيود المفروضة عليها بموجب القانون. هذه القيود تشمل كذلك حرية التعبير على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وبالإضافة إلى ذلك هناك قوانين خاصة بهذه الأخيرة، تمّت صياغتها، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي. ومضمون هذا الكلام هو أن مجال الانترنت ليس فضاءُ فوضوياً غير خاضع للقانون، وفيه يشعر المبحرون أنهم مجهولين وغير محَدّدي الهوية - أو هكذا يظنون - ومن ثمة شعورهم الزائد بالحرية التي يمنحها لهم استعمالهم للأنترنت، ويتعسّفون في استخدام هذه الحرية، لكن هذا الفضاء في الواقع ليس محلّ فوضى وغير خاضع للقانون، إن هذا الشعور ناتج عن الفكرة الخاطئة التي كوّنوها على الانترنت. [11[
يقتضي الخوض في هذا الإشكال طرح سلسلة من التساؤلات، تشدّد على: كيف يمكن جعل حرية التعبير على شبكة التواصل الاجتماعي محكومة بالقانون؟ وكيف يمكن تطبيق ما يحكم الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية على هذه الوسيلة الجديدة؟ وبمعنى آخر كيف يمكن تكييف المبادئ الواردة في الإعلانات الثورية والقوانين التقليدية مع واقع شبكات التواصل الاجتماعي؟
إنها سلسلة من الأسئلة تتزاحم بحثاً عن حلول شاملة مرضية ومقنعة. استناداً على ما هو مدبّج في وثائق الإعلانات الثورية المتمخّضة عن الثورات البورجوازية، وفي نصوص الدساتير، وأيضاً في القوانين الوطنية وفي قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان وللإعلام.
فلو رجعنا مثلاً إلى فرنسا، سوف نجد أن هذه الحرية مؤكّد عليها في المادة 11 من التصريح الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 وهذا التصريح يعتبر ذا قيمة دستورية[12]، وتنص هذه المادة على: "أن تداول الأفكار والآراء، يعتبر من الحقوق الأساسية، والثمينة للإنسان، ولذلك فإن لكلّ مواطن الحقّ في أن يتكلم وينشر بحرية".
هذه الحرية التي كانت في الماضي تهمّ الكلام والنشر والتواصل عبر وسائل الإعلام التقليدية وبالخصوص الصحافة الورقية، قد امتدت اليوم لتشمل شبكات التواصل الاجتماعي والانترنت. إن ذلك ما أكّد عليه قرار صادر عن المجلس الدستوري الفرنسي بتاريخ 10 يونيو 2009 معترفاً بحرية الولوج إلى الانترنت استناداً على مضمون المادة: 11 من التصريح الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن. كما أن كلّ النصوص القانونية الدولية التي صادقت عليها فرنسا، وأدمجتها في تشريعها الداخلي، تؤكّد على ضمان حرية التعبير، عبر وعلى كلّ الدعامات، بما فيها الدعامة الإلكترونية ويدخل ضمن هذه النصوص المادة: 10 من الاتفاقيات الأوروبية لحقوق الإنسان لسنة 1950، والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. [13[
إذا كان ذلك هو واقع الحال في فرنسا، فكيف تم التعامل على هذا المستوى مع حرية التعبير في الولايات المتحدة؟
معلوم أن حرية الرأي والتعبير كما سائر حقوق الإنسان لم يرِد بشأنها نصٌّ في الدستور الأميركي سنة 1787 ولكن هناك إشارات إليها في وثائق أخرى مثل وثيقة الحقوق في فرجينيا في يونيو 1776، وفي تصريح الاستقلال الأميركي في نفس السنة. إن حرية الرأي والتعبير مثلها مثل بقية حقوق الإنسان في أميركا، لم تدخل إلى الدستور إلّا بعد إدخال التعديلات العشر عليه، فكان أول هذه التعديلات هو التعديل المتعلّق بحرية الرأي والتعبير المُدخل على الدستور في سنة 1793. ويشير هذا التعديل إلى منع التشريع في هذا المجال وعدم إصدار أي مقتضى قانوني من شأنه تضييق فضاء حرية التعبير الرحب، ويؤكّد على:
"لا يمكن للكونغريس أن يضع أي قانون من أجل إضفاء إطار مؤسسي على ديانة ما: أي إصدار أي قانون يمنع ممارسة ديانة ما، أو أي قانون من شأنه التضييق على حرية التعبير وحرية الإعلام، أو يضيّق من حقّ المواطنين في الاجتماع السلمي، أو أن يتقدّموا بعرائض إلى الحكومة بغية إصلاح أخطائها الناتجة عن ممارسة التعسف. يتضح من هذا أن حرية التعبير لا تحتمل أيّ ضغط أو قمع". كما يتضّح منه أن حرية التعبير في الولايات المتحدة الأميركية مبدأ يكاد يكون مطلقاً، لأنه غير متبوع بأية حدود، ولا مقيّد بأية قيود، وهو شامل لأيّ وسيلة إعلامية، من ثمة يمتدّ إلى وسائل التعبير الإلكترونية، إلى الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ولكي يوضع الحدّ لأيّ جدال في هذا المجال، فإن الكونغريس الأميركي قد أصدر قانون دال على ذلك « Global internet freedom act » أي "قانون الحرية الشاملة للانترنت" في 4 أبريل 2013 - وهو يهدف إلى حماية حرية التعبير على الانترنت للمواطنين الاميركيين ويؤكّد في نفس الآن على الجانب الدولي في حماية واحترام حرية التعبير بإشارته إلى امتداد هذه الأخيرة إلى حماية حرية التعبير على الانترنت.
القيود على حرية التعبير بالاستناد إلى القانون الدولي
إذا كانت هذه الدول تضمن حرية التعبير، وتعلي من شأنها، وتعتبرها حرية أساسية، فإنها في الآن ذاته تعتبر أن هذه الحرية ليست حرية مطلقة، وبالتالي قد أخضعتها وفرضت عليها سلسلة من القيود. هذه القيود تكون مبرّرة في العادة بالمساس بالنظام العام - والصحة العامة - وبأمن الدولة الداخلي والخارجي أو بحماية الأطفال القاصرين - وحماية الحياة الخصوصية للآخرين.
ويضاف إلى هذه السلسلة، قضايا أخرى تهم، منع وسائل الإعلام المكتوب والسمعي البصري والالكتروني: من الدعوة إلى الحروب، والإرهاب، والدعوة إلى الكراهية، وإلى العنصرية، بمختلف أنواعها، وإلى التمييز الديني والعرقي.. إلخ. وانطلاقاً من هذا فإن حرية التعبير على المواقع الاجتماعية خاضعة لهذه القيود، بفعل ما تضمّنته القواعد القانونية الدولية التي تعتبر كون المجالات إيّاها، منصوص عليها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بالخصوص المادة 19 منه، التي تؤكّد على أن حرية التعبير قد تفرض عليها بعض القيود، ويتم ذلك بموجب القانون: عندما يتعلق الأمر - بالحياة الخصوصية للآخرين - بمنع المساس بالنظام العام للدولة - بأمن الدولة الداخلي والخارج. [14[
لكن ألَا تعتبر بعض التعابير والمبادئ الواردة في هذه المادة جد فضفاضة، ويمكن أن نُدخل تحتها ما شئنا متى ما شئنا، من أجل تقييد حرية التعبير. بمعنى آخر ألَا يمكن اعتبار مفهوم النظام العام، ومفهوم أمن الدولة، مفاهيم فضفاضة، قد يمكّن التعسّف والتوسّع في تفسيرها، سواء من طرف السلطات الإدارية أو من طرف القضاء نفسه؟ أليس من الضروري تحديد هذه المفاهيم بدقة منذ ديباجة الاتفاقية، أو على الأقل في ديباجة القانون الوطني المنظِّم للإعلام والاتصال، وقوانين الانترنت. [15[ هل يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي أن تحرّض على الحروب والإشادة بها، أو تحرّض على الكراهية الدينية، وعلى العنصرية العرقية والاثنية، وعلى التمييز الديني والعرقي، ألم تعتبر المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية ذلك كقيد على حرية التعبير.
إن قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، الواردة في مختلف الاتفاقيات الدولية جميعها تردّد وتكرّر وأحياناً بنفس التعابير مضمون المادتين 19 و 20 من العهد الدولي لحقوق الإنسان، ما يعني كون ما هو وارد في هذين النصين يدخل ضمن القواعد القانونية الدولية الآمرة [16] « impératives » فإذا رجعنا إلى اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 نجد المادة 12 تردّد مضمون المادة 19، كما أن اتفاقية منع التمييز ضدّ المرأة تشدّد على نفس التعابير، ونفس الاتجاه ذهبت فيه اتفاقية حقوق جميع العمال المهاجرين وذويهم. كلّ هذه الوثائق تردّد محتوى المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
ونجد ذات الشيء يتكرّر في المواثيق الإقليمية، في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 1950، المادة 10 وفي الاتفاقية الأميركية الصادرة في 1969 في سان خوزي بكوستاريكا، المادة 13، وفي الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب 1981 وفي الميثاق العربي الصادر سنة 2004 المادة 32. هذه الوثائق الإقليمية تكرّر بالحرف مضمون ومنطوق المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
يستشف من هذه النصوص ذات الطابع الدولي أن الانترنت مشمول بأحكامها، وبالضمانات التي توفرها، مثله مثل الدعامات الأخرى. وعلى الرغم من كون منطوق هذه القواعد القانونية الدولية، لا تنص على حرية التعبير على الدعامات الإلكترونية، ومن كونها لا تستهدف التعبير الالكتروني في متن نصوصها، لكن تأكيدها على الحق في البحث عن المعلومات والأفكار، واستقبالها، ونقلها عبر أية وسيلة إعلامية بغض النظر عن الحدود الجغرافية قابل لكي يشتمل ضمناً التعبير على الانترنت.
لقد أكدت سياسة الانترنت المفتوحة، والمعلن عنها في مارس سنة 1997 من قبل مجموعة عمل تضم خبراء أوروبيين، ومن أميركا اللاتينية على أن الانترنت” لم توجد في فراغ تشريعي” وبالتالي فإن مجاله ليس فضاء غير خاضع لأي قانون، إذا كان الواقع ليس كذلك فإن القوانين الموجودة يمكن، بل يجب أن تقوم بتنظيم التعامل مع هذا الوحش الالكتروني بنفس الدرجة التي يتم بها التعامل مع وسائل الإعلام الأخرى، ولا ضير أن تكون هذه القوانين مختلفة من دولة إلى أخرى، لكنها على الرغم من ذلك مفروض فيها أن تتواءم مع التزامات حقوق الإنسان، المدمجة، في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، بل أن تكون متواءمة مع كلّ وثائق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
دوافع التضييق على الشبكات الاجتماعية ومحاصرتها
نجحت ثورة المعلومات في كشف معالم القوة السيبرانية بالجمع بين مختلف أبعاد الثورة الرقمية. وهو ما مكَّن المفكر "مانويل كاستلز" (Manuel Castells) من فكّ شيفرة المجتمع الجديد وأسلوب تأثيره في حياتنا، حيث أكّد أن الصراع الاجتماعي قد اختلف، فأضحى بين الذات والشبكات الاجتماعية التي صارت أساس المجتمع. [17]
وقد تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي من مجرّد أفضية (فضاءات) افتراضية للتعارف والدردشة إلى مساحة لتبادل الأفكار وإبداء الآراء السياسية بحرية لا تفسحها وسائل الإعلام المكتوبة والفضائية؛ الأمر الذي أثار خشية الدوائر السياسية في عدد من الدول. وبدأ التفكير جديّاً في التضييق على استخدام هذه المواقع بذرائع أمنية وسياسية، خاصة أن هذه المواقع قد أثَّرت بشدة في اندلاع الشرارات الأولى للثورات العربية، وفي توسّع رقعة الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية بدول أخرى عربية وأجنبية.
غير أن الحجة الرسمية المستنَد عليها لمراقبة هذه المواقع ومنع تدفق المعلومات هي الحدّ من التطرّف والإرهاب. فتنظيم الدولة، مثلًا، "يستخدم الفضاء الإلكتروني في عملية استقطاب الشباب إلى صفوف الجماعات الجهادية، بالإضافة إلى إتاحة تدفق المعلومات، وتقليص تكلفة تجنيد الأعضاء، وإيجاد مجتمعات للتواصل الإلكتروني يتشارك أعضاؤها الأفكار والنقاش؛ حيث ساعدت هذه المواقع الجماعات الجهادية في تصدير صورة مفادها أن الجهاديين دائماً منتصرون. وهذا، ما ساعد في تجنيد الشباب وجلب التبرعات. وتستخدم تلك الجماعة الإرهابية المواقع الإلكترونية في نشر جرائمها وطريقة إعدامها للأسرى، وتتفنن في بشاعة طرق الإعدام، لإثارة الذعر في النفوس، مما يفقد المواطنين الثقة في حكوماتهم وقدرتها على حمايتهم"(18) وكانت مثل هذه التقارير سنداً تعتمده العديد من الدول لمنع تدفق المعلومات والتضييق على حرية التواصل عبر الشبكات الإلكترونية. صار إرهاب تنظيم الدولة جسر الحكومات للتضييق على الشبكات الاجتماعية.
صنَّفت بعض الدول، مثل مصر وتونس وسوريا وليبيا والعراق والمغرب والجزائر، مواقع التواصل الاجتماعي كمساحة خصبة لنشأة وظهور بعض الجماعات التخريبية التي تربطها علاقة وطيدة بأحداث العنف. فقد شكَّل ظهور جماعة "البلاك بلوك" متغيراً جديداً في الساحة السياسية المصرية بعد الثورة؛ إذ عبَّرت تلك الجماعة عن نموذج لحركات العنف غير التقليدية التي ليس لديها ذات الأطر الفكرية والأيديولوجية لحركات العنف التقليدية، مثل: تنظيم القاعدة، والسلفية الجهادية. وتقوم حركة "البلاك" بالدعاية إلى نشاطها من خلال شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وذلك بنشر فيديوهات وصور ومنشورات حماسية تحثُّ الشباب على الإنضمام إليها.
كما اعتبرت بعض الدول أن التضييق على شبكات التواصل الاجتماعي يأتي في إطار التصدي للانحلال الأخلاقي، فقرَّرت غلق المواقع الإباحية، وتشديد الرقابة على محتوى المنشورات على صفحات التواصل الاجتماعي، مثلما كان يحدث في تونس مثلاً قبل الثورة. وكان الصراع العربي- الإسرائيلي أحد أهم الأسباب التي تعتمدها الدول العربية، وعدد مهم من الدول الأجنبية، للتضييق على مواقع التواصل الاجتماعي، بحجة التصدي لمحاولات التطبيع مع العدو الإسرائيلي والتواصل مع أجهزته الاستخباراتية. بالإضافة إلى حماية المستخدمين من عمليات القرصنة، خاصة وأن أجهزة الأمن الإسرائيلية تنشر بين الحين والآخر فيروسات، بهدف ضرب أنظمة الحاسوب في الدول المستهدفة، بغية التزوّد بالمعلومات الاقتصادية والتطوّرات الصناعية والتكنولوجية وأهم المشروعات الاستثمارية المتحقّقة.
ويتداول الناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، في العديد من الدول التي تسعى جاهدة إلى التضييق على المواقع الإلكترونية، ما يفيد بأن أجهزة الدولة تعمل على مراقبة كلّ صغيرة وكبيرة. وهو ما يطرح إشكالية حرية الأشخاص على شبكات التواصل الاجتماعي.
وجاء في أحد تقارير منظمة "فريدوم هاوس" أن عدداً متزايداً من الدول بات "يحذو حذو روسيا والصين في التدخّل في شبكات التواصل الاجتماعي، ورصد المعارضين عبر الإنترنت، في تهديد خطير للديمقراطية(19). وأظهرت المنظمة في تقريرها، الذي حمل عنوان "الحرية على الإنترنت"، تراجُع 32 بلداً في مؤشرات حرية الإعلام الرقمي، على رأسها مصر وأوكرانيا. وخلص التقرير إلى أن الهجوم الأكثر حدّة في العالم العربي هو الهجوم على حرية التعبير، لكن المقاومة والإصرار الأشدّ هو على ممارسة حقّ التعبير.
المراجع:
[1] – Agathe Alepage : les droits de la personnalité confrontée à l’internet et droits fondamentaux.
Dalloz 12 Ed : 2006.p :227-254.
[2] – Mac, A Gi : les droits de l’homme et Internet, Etude élaboré par l’Académie internationale des droits de l’homme.
http://www.ebucnet.éducation.fr/legamedia/droit-homm/defaut.htm.
[5] – في مشروع القانون الجديد الذي وضعت مسودته من طرف مجموعة من الخبراء كان كاتب هذه السطور ضمنهم، أفرد فصلاً خاصّاً مكوّناً من عدة مواد للصحافة الإلكترونية.
أنظر نص المشروع صادر عن وزارة الاتصال المغربية في أكتوبر 2014.
[3] – Elain Polymenopoulou : liberté de l’art face a la protection des croyances religieuse, thèse de doctorat. Grounoble 2011, p : 280 et suite.
[4] – Emmanuel Derieux : le régulation internationale de l’internet .
[5] – El houcine Ennaciri : droit de l’internet au Maroc
Mémoire de D.E.S.A, Faculté de droit Agdal 2006, p : 36
كذلك يمكن الرجوع : إلى يونس عراب: التشريعات والقوانين المتعلقة بالانترنت في الدول العربية: ورقة مقدّمة - مؤتمر معرض التكنولوجيات المصرفية العربية والدولية 2002 اتحاد المصاريف العربية.
[6] – انظر: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة: الخاص بمنع الإساءة إلى الأديان،
الصادر بتاريخ 11 أبريل 2009، والذي يؤكّد على الخصوص على الدين الإسلامي، كما يؤكّد على منع الإساءة إلى الأديان حتّى بالوسائل الإلكترونية أي بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي.
[7] – Flaus .J. F : la présence de la jurisprudence de la cour suprême des états unies dans le contentieux Européen des droits de l’homme.
RTDH, 2005, N° 26 P .313-331.
[8] – Toby Mende et autres : Etude mondiale sur : la vie privée, op cit, P15.
[24] – علي كريمي: حقوق الإنسان تطوّرها ومرجعيتها، دار النشر المغربية 1999، ص21 فما بعد.
[9] – Edith Jaillardon : les droits de l’homme à l’épreuve de l’internet :
Mémoire du Master : Université lumière – Lyon
[10] – Thibaut Verbiest : la presse électronique quel cadre juridique.
Article paru dans l’Echo : le 16/09/1999.
[11] – انظر نص التصريح الفرنسي الصادر عقب الثورة البورجوازية الفرنسية المسمّى:
” بالتصريح الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789″ المادة 11 والمادة 10 منه.
وانظر كذلك:
Conseil , constitutionnel : n° 71-44-16 Juillet, Liberté d’association.
[12] – Approche de droit comparé sur les réseaux sociaux :
Rapport pour la table ronde « quels droits pour les réseaux sociaux »
présenté par : typhaine Lannel- Madame Zoé Simon- Mathieu Payet : Faculté de droit et de sciences politique Aix Marseille, 20 Février 2014, p : 10-11-12.
كذلك: – فاروق أبوعسى: الاتجاهات الحديثة في حرية الإعلام وحقوق الإنسان، مجلة دراسات إعلامية: عدد: 73- أكتوبر 1993 ص61.
[13] – Renucci.J.F : l’article 9 de la convention européenne des droits de l’homme et la liberté de la pensée de conscience et de religion ed : de conseil de l’Europe, Strasbourg 2004, p : 25.
[14] – Roger Pinto : liberté de l’information et le droit international Ed : Economica, Paris 1984 P : 15 et suite.
[15] – علي كريمي: تأثير تطوّر تكنولوجيات الإعلام على حقوق الإنسان.