التحق سهيل عبود بكلية التربية في الجامعة اللبنانية، وكان نشيطاً في العمل الطلابي، هناك حيث التقى صبحي زعيتر عام 1972. يوم اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، انتقل عبود للعمل في جريدة "النداء"، مراسلاً في القسم السياسي، ولاحقاً في القسم المحلي. ليتولّى مسؤولية القسم السياسي بعد انتقال المسؤول السابق طانيوس دعيبس للعمل في "صوت الشعب" عام 1987.
كان سهيل واسع الاطلاع ومحنّكاً في السياسة. كانت علاقاته مع السياسيين متواصلة، كذلك جمعته علاقة جيدة بصحافيين كثر في "النهار" و"السفير" و"اللواء"، ما منحه قدرة على بناء علاقات في "المنطقة الشرقية"، من القصر الجمهوري وصولاً إلى سمير جعجع. شبكة العلاقات هذه ساهمت في اطلاعه الواسع، وخولته إدارة القسم السياسي في "النداء".
في المكاتب القديمة للصحيفة في منطقة المزرعة، كان هناك غرفة ينام فيها الصحافيون، سهيل عبود، وصبحي زعيتر، وأحمد طقشة، وأبو وضاح، وجهاد رزق، وخطاط اسمه جان عاد وغيرهم...
يصف صبحي زعيتر سهيل بالـ "سلس والمتواضع، والحريص على فصل الأمور الشخصية عن الحزب والعمل". يعتبر زعيتر أن هذا أمر غير جيد، حال دون انشاره، لكن سهيل فضل العمل خلف الستار. أحب القراءة كثيراً. فحين كانوا يسهرون جميعاً، كان سهيل يجلس بمفرده ويقرأ، و"بين يديه كتاب صعب عن الاقتصاد".
في بداية حياته الحزبية كان ستالينياً، ولم يكن من الممكن المزاح معه، لاحقاً اعتاد على الانفتاح، وتطور بعد الحرب واتفاق الطائف. عندما انتقل إلى الكويت تطور فكرياً، شاهد الواقع اللبناني من بعيد، وقرر الابتعاد. كانت علاقاته منفتحة على الآخرين، متشعبة وغير مرتبطة بجهة سياسية واحدة، وما ساعده على ذلك أنه ابن منطقة مختلطة سياسياً وطائفياً. تطورت قراءاته ونظرته. يقول زملاؤه في الكويت إنّ التطور كان هاجسه، وأن تكون المؤسسة التي يعمل فيها هي المؤسسة الفضلى، حتى إنه كان ينام في مكتبه، وعند الساعة الثامنة صباحاً يوزع ملاحظاته لكل صحافي حول كيفية تطوير عمله.
رغم تشاركهما التجربة الطلابية، عمل زعيتر في "النداء" متطوعاً بين عامَي 1973 و1976، ليتوظف عام 1976 بعد تخليه عن مشروع الهجرة إلى المانيا الشرقية، تحت إلحاح سهيل طويلة. بعد إقفال "النداء" انتقل زعيتر للعمل في صحيفة "السفير" ومنها الى صحيفة "الوطن" السعودية ولاحقاً في "القبس" الكويتية.
بداية مهنية
علاقة رئيس تحرير صحيفة "الأخبار" ابراهيم الأمين مع سهيل عبود مختلفة. هنا يختلط الحزبي بالمهني والشخصي. يرى الأمين أن سهيل مرجع قيميّ له إلى جانب والده. بدأ عمله في الصحيفة بفعل الحرب. يوم دخل الجيش السوري مرة أخرى إلى بيروت في شباط 1987، أقفل مركز الحزب الشيوعي الرئيسي في طريق الجديدة، وأجبرت الظروف الأمنية قيادة الحزب على فرز عناصرها في مراكز أخرى. أُرسلَ الأمين وشابٌّ آخر إلى مقر جريدة "النداء"، وتحول المركز إلى مقر سكنيّ لهما.
تغيب الأمين عن صفوفه في كلية الهندسة في جامعة بيروت العربية، وصب جل اهتمامه في الحزب. ثمّ بدأت علاقته بالصحيفة. قضى وقته إلى جانب سهيل عبود وحسن الشامي وصبحي زعيتر. كان يساعدهم في "مهمات" تحريرّة. تزامن أول عمل صحفي له مع بداية الانتفاضة في فلسطين عام 1987، حين اشتد ضغط العمل على الصحافيين، ولاحقاً انتقل إلى القسم المحلي، وعمل في موضوع التربية والمناطق، ليستقر أخيراً في القسم السياسي مع سهيل عبود. قضى الأمين في "النداء" أربع سنوات ونصف السّنة، إلى أن أقفلت في شباط عام 1992 وانتقل بعدها إلى "السفير".
بعد قرار تحويل "النداء" إلى مجلة أسبوعية، مع صحافيين، انتقل سهيل للعمل في صحيفة "القبس" الكويتية كسكرتير تحرير. كان من المفترض أن يذهب الأمين ومجموعة من الكوادر، لكنه لم يحصل على تأشيرة دخول، ليتبين لاحقاً أن والده كان قد طرد في الخمسينيات القرن الماضي بتهمة إنشاء حزب شيوعي.
صدق ونقيّ
عاش سهيل عبود حياة صعبة. تعرض للاضطهاد، وهو ابن عائلة فقيرة، جاء إلى بيروت ليسكن في بيت صغير مع شقيقه وشقيقته، وتعرض لاضطهاد إضافي لأنه عاش في الضواحي. لم ينتفع أبداً، ولم يكن لديه امتياز شخصي. بعد أن سافر إلى الكويت بات يجني مالاً يسمح له بمساعدة عائلته، قبلها لم يكن يملك أي شيء، رغم ذلك حافظ على تواضعه. كانت لديه حماسة ليتعلم ويقرأ ويتعرف إلى ثقافات. تعرض في الكويت لمغريات كثيرة، فغالبية ساحقة من الصحافيين اللبنانيين والعرب الذين ذهبوا إلى الخليج انتفعوا واستفادوا بشكل يتجاوز رواتبهم. سهيل لم يفعل ذلك، كما يقول الأمين: "صلابته من هذه الناحية ليست شكلية، وهذه أساسية بشخصيته"، لذلك يعدّه الأمين مرجعية قيمية في مسائل معينة.
لم يرضَ سهيل عبود على موقف الحزب الشيوعي وعلاقته بسوريا، وكان نقديّاً تجاه السوريين، وكان لديه رأي عن لبنان والنظام وتطويره. كذلك عمل على مسودة كتاب لم ينشر، وكان من المفترض أن يتم التدقيق فيه، وكان يتولى متابعة هذا الموضوع د. أحمد طقشي، إلى جانب بعض زملائه بـ "القبس". كانت هناك محاولات جديدة للعمل على المسودة من ناحية التدقيق والتنقيح، إذ تحتاج إلى تدقيقين مرتين: من جهة هناك تواريخ وأحداث، إضافة إلى تحرير نهائي لتصدر كمؤلف. عمل سهيل سنواتٍ طويلة على هذا المشروع، راجع خلالها تاريخ النظام السياسي اللبناني والدستور ومحاولات التطوير ونتائج الحرب الأهلية واتفاق الطائف، وهناك حقبات عايشها شخصياً ولديه تجارب بالمباشر، لكنّ هناك ظروفاً شخصية حالت دون صدور المؤلف.
سهيل هو الشخص الوحيد الذي لم يشتبك مع أحد، يقول الأمين. هو الصحافي الذي أجمع متخاصمون على احترامه. يوم رحيله حضر إلى دفنه أشخاص من جهات عدة. لم يكن متلوّناً أبداً، كان صافياً، وقاتل ليحافظ على هذا الأمر، ساعياً للمحافظة على العلاقات الإنسانية.
لم يكن استعراضيّاً، لذلك فهو غير معروف، رغم أنه أكثر كفاءةً من كثيرين، وهذه كانت قوته الحقيقية. كانت هناك مراجع في البلد تخشاه، ليس لأنه في الحزب الشيوعي، بل لأنّ لديه على الصعيد الشخصي حصانة كبيرة، إذ لا يمكن التحايل عليه في الكلام لأنه ذكي، ولا يمكن استدراجه إلى رد فعل عشوائي لأنه عاقل، ولا يمكن رشوته.
القدوة
تعلم ابراهيم الأمين ثلاثة أمور من سهيل. كان يقول له إن حرفته كصحافي لا دخل لها في هويته الفكرية والحزبية والسياسية والاجتماعية، وهناك أصول مهنية يجب أن يحاول تعلمها. كما تعلم منه الموضوعية، لكن ليس الحياد، أي بصفته صحافياً يجب أن يتعامل مع الوقائع وأن يكون على تواصل مع كل الناس. الأمر الثالث، والذي كان محط جدل بينهما، يتمحور حول طريقة كتابة الأمين، فكان لسهيل ملاحظاته. كان يقول له أن عليه التّمييز بين كتابة التقرير الصحفي والكتابة كمعلق سياسي. الأمر الأخير، الذي كان ميزة عند سهيل، قوة مقاومته الهائلة لأي نوع من الإغواء. فخلال مؤتمر الطائف كان هو وصحافي آخر أو صحافيّان، بين عشرات الصحافيين، ممّن لم يوافقوا على تلقي المال من السعوديين ورفيق الحريري. لم يقبل الهدايا ولم يلبّ الدعوات. كما تعلّم أن لا يتّخذ موقفاً من الشخص الذي سيقابله، وأن يتعامل معه من موقعه كصحافي.
لم تتعامل المقرات الرسمية معهم كصحافيين آخرين، وهنا تكمن قوة سهيل، يؤكّد الأمين: "فقد انتزع هامش انه صحافي، وكان لديه علاقات قوية في البلد مع سياسيين وإعلاميين، ميّزوا فيه الجانب الصحافي، ولم يتعاملوا معه كممثل لجهة سياسية".
حاول سهيل رؤية المشهد اللبناني من خارج زاوية الحزب. هناك تعقيدات في التركيبة اللبنانية، لم يتمكن اليسار في لبنان من تجاوزها، وبمعزل عن الأسباب، يقول الأمين، يجب أن ينظر إليها كما هي، وبناء موقف منها ومحاولة تغييرها، وهذا يتطلب وضع مسافة، دون التخلي عن الموقف، وكان سهيل يدفعه للقيام بذلك من موقعه الصحفي.
أعطاه ملاحظاته حول "الأخبار"، وكان الأمين يأخذ بها، وعندما كان يأتي إلى بيروت، يناقشه، وحين زار الأمين الكويت مرتين، كان يستقبله سهيل بكمية كبيرة من الملاحظات. كان سهيل من الأشخاص الذين اقترح الأمين على جوزف سماحة أن يأتي للعمل معهما في "الأخبار"، لكن سهيل رفض، لعدم رغبته في العودة إلى لبنان. لكنّ للامين تفسيراً مزدوجاً، أوله في السياسة لأنه كان أقرب إلى التيار الذي يحمل سوريا بشكل رئيسي مسؤولية ما حدث في لبنان، والثاني مهني، إذ كان من المفترض أن يأتي ليلعب دور في "الأخبار" كلاعب سياسي، وأن يكتب عموداً يوميّاً. لا يدري الأمين إذا كان لسهيل مشكلة في أن يكون جوزف سماحة رئيس تحرير، إذ كان يمكن أن يتجاوز الأمر معه هو، بحكم مونته عليه.
خلاف لا خصام
في الفترة الأخيرة كان الأمين وعبود على خلاف سياسي، لكن بالنسبة إلى الأمين، يوم يحتار في أمر ما يتصل به. تمحور الخلاف حول إيمان سهيل بنهائية الكيان، وكان يشعر الأمين أنّ مع الوقت سيغدو سهيل لبنانياً كثيراً، ويرجح أنه لو بقي على قيد الحياة كان سيكون في موقع سياسي آخر، لكن لن يذهب إلى مكان بشع، فهناك من لم يتمكنوا من التمييز، إذ يقولون إنهم ضد الأميركيين لكنهم يعملون مع أدوات أميركا في المنطقة.
أصاب سهيل عبود في قراءته الباكرة حول مبالغة اليسار اللبناني في التوهم بتجاوز التعقيدات اللبنانية، لكن إن كان الحل باليسار الراديكالي، فهناك بديل بالنسبة لسهيل، ويجب أن نقرأ المخطوطة التي وضعها لنعرف ما رأيه، على حدّ قول الأمين. لكن استنتاجه أنه كان أقرب إلى اليسار الأوروبي، الذي عدل بطبيعته نحو الاشتراكية الديموقراطية، وهي برأيه شكل من أشكال من الليبرالية، أي التعايش مع النظام الرأسمالي، ومع الوقت تصبح أشبه بالمؤسسات غير الحكومية، ما يخالف توصيف ماركس للمجتمع الخاص.
الخلاف السياسي لم يؤد بالأمين إلى اتخاذ موقف من شخص يعرف كيف يحترم الإنسان الآخر. فهو كان يحترم خصوصيات المجتمعات التي عاش فيها، إذ كان هناك إسلاميون في الكويت يعانون معه لأنه لا يشتم ولا يكفر، ولا يحاول إظهار أنه لا يشبههم. رفض هذه الممارسات. يختم الأمين: "من الجيد أن يتعامل الشيوعيون مع سهيل كجزء من ذاكرتهم لأنه من أفضل النماذج".