في ذلك الطابق الأول من بناية تقع الى تقاطع البسطا - المزرعة. قريباً من كنيسة مار مخايل وشارع يزبك ثم قهوة المختار ابو الطربوش المجدلاني، وإلى الشمال مخفر البسطا الذي استضافنا مراراً، ومن ثم الى الزاروب القريب حيث المطبعة وحمد والزرقا وأصدقاء نقولا اللحام وكامل فقيه والياس البواري والريٍس الياس الهبر.
عندما التحقت بكُتّاب الجريدة وكان ذلك فعلياً التحاقاً تطوعياً، كنت طالباً جدياً في كلية التربية بالجامعة اللبنانية. كان الآلوف يتسابقون على دخولها لأن فيها منحةً تساوي راتب موظف. وامتحانات دخولها كانت مباراة وطنية. كنّا يومها شلة من المحظوظين بكفاءتنا. الياس عطالله وملحم ابو رزق وسعدالله مزرعاني وجورج مراد وجورج غصن وفوزي نعمة ... أسماء قليلة من بين مئات صاروا يشكلون طليعة العمل السياسي في الجامعة اللبنانية والجامعات الآخرى. كان الشباب القادم الى الجامعة مناضلاً بقناعة وصمت وتحدٍ. حنا غريب وخالد حداده وأحمد السيد وأحمد يوسف والرفيقات اللواتي ملأن الجامعة قوةً وإنتشاراً كان لهن في كل مكان حضور ولا يزال.
من ذلك العالم الجامعي الذي قدم الرفيق حسن داوود بعض ملامحه الجميلة في روايةٍ أخيرة، ذهبتُ الى "النداء". كنت متطوعاً عندما كتبت تقريري الأول عن زراعة التبغ ونقابة مزارعيها في منطقتي، واكتشفت يومها ان قضاء البترون يحتل المرتبة الثانية في هذه الزراعة بعد بنت جبيل. سررت بهذه المصادفة وبوجود هذه القواسم المشتركة بين منطقتين تبغيتين. ثم اتسعت دوائر المشاركة. كان الغليان السياسي والثقافي والإجتماعي والطلابي والوطني كفيلاً بتقديم المادة الإعلامية اليومية الغنية، وما علينا، نحن الجدد في المهنة والنظرة الى الحياة إِلَّا التجديد في صياغتها وتبويبها وتقديمها الى آلاف القرّاء في مختلف الأنحاء اللبنانية.
صارت "النداء" جريدة الجامعات ومؤسسات العمل. تحول قرّاؤها الى موزعين لها هي وشقيقتها الأسبوعية "الأخبار"، وتباروا في الكتابة إليها، وفيها طوّر كتابها مهاراتهم. صارت افتتاحيات كريم مروة وخليل الدبس وسهيل طويلة وخليل نعوس مادةً منتظرة. ومع اندلاع الحرب وتفجر الصراعات تحولت كتاباتهم مع افتتاحيات جورج حاوي الى خارطة طريق. باختصار، باتت الجريدة جزءاً من المشهد اليومي للبلد، واحتلت مكانتها وسط الصحف العريقة والجديدة التي كانت تتميز بتمويلها الهائل وتقديماتها السخية الى العاملين فيها، وهو ما لا يمكن مقارنته بتمويل "النداء" ومخصصات "متطوعيها".
كانت الجريدة بدأت انطلاقتها بوصفها جريدة الحزب الشيوعي في مطلع العام ١٩٥٩وفي ذكرى مرور ٢٠ سنة على تلك الانطلاقة، مطلع العام ١٩٧٩، وكان لبنان غارقاً في حروبه وانقساماته، بلغت "النداء" ذروة انتشارها وفعاليتها. وعززت من مواكبتها للتطورات التكنولوجية الحديثة في عالم الطباعة. لم يعد عمال المطبعة الواقعة أسفل مطعم ابو نواس في البربير بحاجة للرصاص المصبوب لرصف حروفهم وانتقلوا الى الصورة والأوفست. اختصرت التكنولوجيا الوقت وفِي الموازاة انتقلت الاتصالات من برقيات التلغرام الى الفاكس وفِي وقت لاحق الانترنت والإيميل. لم تعد لفافة ورق وكالات الأنباء الأجنبية تتدحرج على ارض صالة التحرير لتزعج جعفر الحسيني أو صبحي زعيتر ورفيقه في الهجرة احمد طقشة قبل أن يتولى حسن الحسيني نجم مونت كارلو المقبل، الاهتمام بجمع شتاتها.
في عشرينيتها جاء نقولا الشاوي للاحتفال مع العاملين فيها. لاحظ المناضل المثقف القديم دماً جديداً وحيويةً لافتين. أثنى وتذكر أن هذا المشهد كان مستحيلاً قبل عشر سنوات. كانت الجريدة في طريقها لتصبح مدرسةً في الإعلام، سيتخرّج منها العشرات الذين سيغنون وسائل الاعلام المحلية والعربية، وأول تلك الوسائل الشقيقة "إذاعة صوت الشعب" التي اليها جاء خريجو الجريدة ليحولوها الى محطة مرموقة في سنوات قليلة.
كانت الثمانينات امتحاناً قاسياً للجريدة على مختلف المستويات. في البداية واجهت الاحتلال الاسرائيلي لتصبح الناطقة باسم جبهة المقاومة الوطنية، ولاحقاً واجهت التحديات الجديدة في عالم الإعلام، فقد احتل الاعلام المسموع مساحته الواسعة قبل ان يتقدم الإعلام المرئي الى أخذ الحصة الكبرى. تأثرت "النداء" مثل غيرها من الصحف وبات المال شرطاً حيوياً للاستمرار. القطاع بأكمله يعاني في بلد تراكمت أزماته الى حد الفضيحة. والحاجة الى إعلام حقيقي قائمة كما كانت في منتصف السبعينات. الظروف اختلفت لكن في النداء ما يكفي لتجديد الأمل ولتحية صانعيه.