في هذه الظروف "المؤشكلة" سنحت لي الفرصة لكتابة بعض النصوص الشعرية الوطنية الصغيرة من باب بصيص النور الأجمل الذي كان يشعل فينا، نحن الشيوعيين، جذوة الجنون الثوري في مواجهة العدو الأساس في الجنوب، راثيًا فيها شهداء "جمول" الذين كانوا يصنعون زمنًا عربيًّا جديدًا. وكنت أسهر حتى الصباح مع فريق عمل الجريدة إلى حين طباعتها وقراءة العدد الأول منها وبدء توزيعها على المكتبات والمنظمات الحزبية. إذ شاركت بهذه المهمة المضنية في زواريب شارع الحمراء ومحاله التجارية والوتوات، وقبلاً في حي السلم والمريجة بين عامي ١٩٨٤ و١٩٨٥، وكم كانت الفرحة تغمرني عندما أعود إلى المركز وقد نفدت الأعداد التي كُلّفتُ بتوزيعها والتي غالبًا ما كانت تتراوح بين ٢٥ و٣٠ عددًا. واستمرت علاقة التفاعل الإيجابي مع الصحيفة الأحب إليّ التي كنت أتناولها بنهم من "المانشيت" لغاية آخر كلمة في الصفحة الأخيرة، فأصبحت جزءًا مني، حتّى إذا غابت عنّي يومًا ما شعرت بشيء ما ينقصني.
ثم كانت المرحلة الثانية مع النداء من الجزائر التي سافرت إليها في أثناء مرورها بواحدة من أكثر الظروف السياسية تعقيدًا والأمنية خطورةً، حيث قضيت أربع سنوات من الصخب السياسي العالي النبرة بين عامي ١٩٨٨ و١٩٩٢، أثمرت تحولاً سياسياً مفصليًا في حياة الجزائر من نظام حكم الحزب الواحد إلى التعددية السياسية.
بعد أسابيع قليلة على وجودي في هذا البلد ذي التاريخ النضالي العريق في مقاومة أطول استعمار في العالم والانتصار عليه، تسنى لي مواكبة مجموعة كبيرة من الأحداث والحراكات الشعبية والاحتكاكات التي حصلت بين المتظاهرين والشرطة في أحياء وشوارع عدة من الجزائر العاصمة ومدن أخرى، فدبّ الحماس بي ورحت أوثق مشاهداتي وألملم الأخبار من صحافيين جزائريين أصدقاء ومن الصحف ومن آخرين، فولدت أول مادة إعلامية جدية كانت عبارة عن رسم تفصيلي لخارطة التحركات والتطورات السياسية التي حصلت في خلال أسبوع، وهي المادة التي سألني بشأنها يومها الزميل ابراهيم الأمين إن كنت أفضل نشرها باسمي أو من دونه نظرًا لدقة الأحداث الجارية هناك.
في اليوم التالي صدرت النداء بخبرين رئيسين اثنين أحدهما محلي والثاني عربي كنت أنا محرّره، فانتابني شعور عارم بالثقة أنبأني أن طريقي في فضاء الصحافة قد بدأ فعليًا، فاستمررت في هذا المشوار، نظريًا في مقاعد الدراسة، وفعليًا من خلال نقل الأخبار الأمنية والسياسية والثقافية في الجزائر تخللته طلات متفاوتة على التطورات في تلك المنطقة، إذ كانت البلاد تعيش تطورات دراماتيكية أفضت إلى التحول من نظام سياسي شمولي بقيادة حكم الحزب الواحد إلى دولة فرّخت عشرات الأحزاب والجمعيات السياسية في أقلّ من سنتين.
بدأت أرسل تباعًا عبر جهاز الفاكس موادَّ شملت مختلف الميادين. فنشرت في الصحيفة اليومية ولاحقًا في المجلة الأسبوعية، عددًا كبيرًا من المقالات والمقابلات، من بينها مقال عن عادات وقيم غريبة للطوارق الذين يسكنون في عدة دول إفريقية، ومقابلات سياسية وثقافية مع قادة حزبيين وأدباء كالروائيين واسيني الأعرج والطاهر وطار وزينب الأعوج، ثم توسعت اهتماماتي شيئًا فشيئًا فتناولت في عدة مقالات قضايا إفريقية ترتبط بشكل أو بآخر بالجزائر، لما تشكله من قوة إقليمية فاعلة، كقضية الصحراء الغربية وإقليم الأزواد في مالي وإرتريا المشرفة على مضيق باب المندب التي كانت قد نالت استقلالها لتوها.
هكذا كانت البداية التي، وبالتعاون مع زملائي العاملين في الجريدة آنذاك، منحتني فرصة ذهبية للتمرس في ميدان الصحافة وذلك بموازاة متابعتي الدراسة الأكاديمية في الجامعة الجزائرية، وهي تجربة استفدت منها لاحقًا حين تطوعت في قوى الأمن الداخلي واستقررت في شعبة العلاقات العامة، المتخصصة بالإعلام الأمني، أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا متابعًا الصّحفَ اليومية والمجلات الأسبوعية وبعض الدوريات الشهرية، ومحررًا لكل ما يصدر عن الشعبة من بيانات وبلاغات ومنشورات تخصّ عمل قوى الأمن الداخلي.
لقد كانت سنوات طويلة زادتني خبرةً ومراسًا، فعدت الحزب ومنه إلى المجلة واضعًا نفسي بتصرفها خدمةً لقضيتنا الوطنية وقضية فلسطين المركزية اللتين نكرّس جهدنا ذودًا عنهما وانتصارًا لهما.