مهدي عامل: بالنقد وحده تنشحذ المفاهيم كأدوات معرفية

على يد القوى الرافضة للتحرر بمفهومه الشامل، التحرر الذي يربط بين تحرير الارض من الاحتلال الصهيوني وتغيير النظام الطائفي السياسي وقاعدته الرأسمالية التابعة – نظام سيطرة الطغمة المالية، أغتيل مهدي عامل في الثامن عشر من أيار عام 1987. وهم ما قتلوه ولا اغتالوه وإنما شبِّه لهم.
أتى اغتيال مهدي في سياق سلسلة اغتيالات طالت مناضلي الحزب الشيوعي اللبناني في كافة الميادين (المقاومة، الفكر، النقابات، التربية، الفن،...). وهدفت هذه الاغتيالات حينها إلى إقصاء الحزب الشيوعي اللبناني كقوة سياسية أسّست وطوّرت عبر النضال خطّاً وطنيّاً ثوريّاً قائماً على الربط بين التحرّر الوطني والتحرّر الاجتماعي.
واقع الحال اليوم يقول أن القوى التي تفصل مواجهتها للإمبريالية عن مواجهة الرأسمالية هي قوى تحاول الربط فعليّاً بين مواجهة الإمبريالية والإبقاء على الرأسمالية. هي قوى لا تسعى إلى التحرر من النظام الرأسمالي العالمي، بل تعتمد منهجاً يقودها، في أفضل الأحوال، إلى محاولة تحسين محدود لموقعها ضمن النظام الرأسمالي العالمي المأزوم أصلاً. وهذا جانب من مأزق هذه القوى.
لقد اعتبر مهدي أن العداء ضدّ الإمبريالية لا يكون متّسقاً إذا لم يكن في الوقت نفسه نضالاً ضد الرأسمالية من أجل الإشتراكية. لذا فإن استنهاض وتجديد الخط الوطني الثوري الذي أرسى أسسه المعرفية رفيقنا مهدي عامل ، باحثاً في تميّز القوانين التاريخية لتطوّر بلداننا بما هي بلدان رأسمالية تبعية، يمثلان ضرورة ملحّة لإنقاذ شعوبنا العربية من التفتّت والإندثار التدريجي.
على أبواب المؤتمر الثاني عشر اخترنا قسماً من نص نادر لمهدي عامل نشر في مجلة الطريق عام ۱۹۷۷ (العدد ٤). في هذا النص يعرض مهدي لكتاب الباحث الاقتصادي "كمال حمدان" الذي صدر عام ۱۹۷۷ بعنوان "التطورات النفطية الإقتصادية بعد عام ۱۹۷۳".
أهمية هذا الجزء من النص تكمن، من جهة، في نقاش مهدي طرح كمال حمدان حول موقع الثروة النفطية في استراتيجية التنمية العربية، وهي مشكلة ما زالت قائمة وأصبحت أكثر راهنية مع ولوج عددٍ من البلدان العربية ما يُسمّى "عصر النفط  والغاز" (لبنان، سوريا، مصر...). ومن جهة أخرى، وهذا مهم على أبواب المؤتمر الثاني عشر، يُبيّن لنا النص أن الاختلاف أمرٌ ضروري وطبيعي  بين الرفاق المنتمين إلى الحزب الشيوعي الطليعي. إن الإختلاف والنقد لا يعنيان بتاتاً التجريح والتخوين وما شابه بل هما ضرورة لتطور الوحدة وتعميق المعرفة العلمية بهدف تغيير الواقع.
والآتي نص مهدي عامل:
صدر حديثاً عن معهد الإنماء العربي كُتيّب بقلم الاقتصادي الشاب كمال حمدان تحت عنوان "التطورات النفطية الاقتصادية بعد عام 1973". والدراسة هذه تقع في سبع وسبعين صفحة منقسمة إلى قسمين: القسم الأول بعنوان "خلفيات معركة الأسعار"، والقسم الثاني بعنوان "الثورة النفطية واستراتيجية التنمية العربية". وينتهي كل قسم بلائحة موجزة بأسماء الكتب المعتمدة بشكل عام في هذه الدراسة، أو التي يرى الكاتب فيها فائدة للقارئ الذي يريد أن يعمّق البحث في القضايا الاقتصادية النفطية، أو في القضايا الخاصة بتطوّر بلدان ما يُسمّى "العالم الثالث" بوجهٍ عام. والدراسة هذه، برغم حجمها المتواضع، كثيفة ومركزة تعالج، بشكل مقتضب، مشكلات اقتصادية بالغة الأهمية، وتتجنب أيضاً معالجة بعض المشكلات النظرية والسياسية التي هي ملازمة بالضرورة للمشكلات التي تعالج. لكن القارئ يخرج من قراءة هذه الدراسة بوضوح أكبر في الأفكار، وربما وجد متعة علمية في إعادة قراءة هذا الكُتيّب الذي كنا نتمنّاه بحثاً أوسع تفصيلاً وأبعد عمقاً. ويخرج القارئ أيضاً بحكمٍ لا مبالغة فيه هو أن كمال حمدان قد أظهر في دراسته هذه أنه من خيرة اقتصاديّي هذا البلد.
في القسم الثاني من دراسته، يحاول الكاتب أن يحدد، في خطوطه العريضة، الدور الذي يمكن - بل يجب - أن تلعبه الثروة النفطية في رسم استراتيجية للتنمية العربية. أنه يطل، في هذا القسم، على المستقبل ليُعقلِن قدومه، وهو، في محاولة رسم خطوط هذه العقلنة، ينهج نهج الاقتصادي التقني، فيقدّم لنا ثلاثة نماذج من "التنمية" يرتبط تحقق كل منها بقرار سياسي من السلطة القائمة -أو المقبلة- لا يدخل الكاتب في تحديد تفاصيله. والنماذج الثلاثة تنطلق كلّها من ضرورة تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، أي من ضرورة أن يكون العالم العربي ما يسميه "محيط التنمية الاقتصادي". فلا "تنمية" اقتصادية في محيط اقليمي، فهي مكلفة فضلاً عن كونها فاشلة في مبدئها نفسه.
النموذج الأول تضطلع فيه "الدول المنتجة للبترول بتحويل مشاريع التنمية في الدول النامية، عن طريق عقد صفقات مع الدول الرأسمالية الصناعية، تصدر هذه الأخيرة، بموجبها، الماكينات والآلات والسلع الترسملية والاستهلاكية إلى الدول النامية، بهدف تجهيز هذه المشاريع وتشييدها" (ص 58-59). هذا النموذج "يبقى على طبيعة العلاقات مع السوق الرأسمالية العالمية"، بمعنى أنه يبقى على علاقة التبعية البنيوية التي تربط الدول "النامية" بالامبريالية. ولا "تنمية" إلا بالانعتاق من علاقة التبعية هذه.
النموذج الثاني "يقوم على أساس تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الدول النامية في إطار وحدة شبه مستقلة...". لكن الكاتب يقول لنا "أن هذا الخيار، برغم إنجازاته المحتملة، لن يؤدي إلى انعتاق الدول النامية الكامل من العلاقات التي تربطها بالسوق الرأسمالية العالمية" (ص 60)، من غير أن يقول لنا السبب في ذلك. وأكثر الظن أن عدم ذكر السبب هذا راجع، بالتحديد، إلى غياب المفهوم النظري لعلاقة التبعية من بين المفاهيم التي بها يفكر. وهذا عيب في التفكير، لا سيّما إذا اعتمد التفكير، في قصديّته، منهج التفكير الماركسي. ومسؤولية السقوط في هذا العيب لا تقع على الكاتب، بل على منطق فكره الذي يعتمد، بشكل غير نقدي تقسيماً للعالم بين دول اشتراكية ودول امبريالية ودول "نامية"، بهذا التقسيم، تخرج الدول "النامية"، في مفهومها البرجوازي، على النظام الاشتراكي والنظام الامبريالي، كأنها تنمو في ما بين الاثنين، وهي، في الواقع، "نامية" في علاقة من التبعية البنيوية للامبريالية هي التي تمنعها، في "نموّها" نفسه من "النمو" بشكل يتجدد فيه عائق "نموّها" بتجدّد تلك العلاقة من التبعية.
والنموذج الثالث هو "الذي يهدف، في المطاف الأخير، إلى كسر البنى الراهنة للتقسيم الدولي للعمل، وصولاً إلى استبداله بتقسيمٍ جديد، بالتعاون المكثف مع الدول الاشتراكية" (ص 60). ويرتكز هذا النموذج إلى أفكار أساسية هي ضرورة التكامل الاقتصادي العربي، أي ضرورة أن يكون العالم العربي "محيط التنمية"، وضرورة انتهاج سياسة التصنيع المركز وربط الزراعة بالصناعة. ويفضّل الكاتب، بالطبع، النموذج الثالث هذا على النموذجين الأوليّين، ثم يطرح السؤال الآتي: على من يقع عبء القيام بتنفيذ هذه الاستراتيجية الاقتصادية؟ وجوابه هو أن "المضي في تنفيذ هذه الاستراتيجية لا يمكن أن يوكل إلى القطاع الخاص، أو إلى القوى العضوية للسوق وإلى قوانين العرض والطلب، نظراً إلى عجز هذه العناصر، من الوجهة الموضوعية، عن تحقيق الأهداف المُشار إليها" (ص 73). فلا بدّ أن تحسم الدول العربية الأمر إذاً في "اتجاه الاعتماد على القطاع العام أساساً" (ص 74).
لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو الآتي: هل يكفي الاعتماد على "القطاع العام" في هذا التوجه نحو تنفيذ استراتيجية "التنمية" حتى يتم  للدول "النامية" الانعتاق من علاقة التبعية البنيوية التي تربطها بالامبريالية؟ ولا بدّ من القول هنا أن الكاتب نفسه يعي هذه المشكلة، فهو يرى أن "القطاع العام" - لا سيّما في الدول العربية المنتجة للنفط، كالسعودية، والكويت وقطر وإمارات الخليج - "لم يؤد، في أي شكل من الأشكال، إلى الحد من نطاق علاقات التبعية للسوق الرأسمالية، وإنما سهّل هذه التبعية ودعمها وجدد أشكالها..." (ص 76). فتفادياً للوقوع في ما وقعت فيه هذه الدول من تجديد لعلاقة التبعية، في إنشائها "القطاع العام"، بدلاً من الانعتاق منها وكسرها، يرى الكاتب الحل في إنشاء ما يُسمّيه "القطاع العام المشترك الذي يختلف، في شكل جوهري، عن القطاع العام الذي يقوم الآن في دول المنطقة وبخاصة في دول الخليج" (ص 76). لكن الكاتب لا يحدد بدقة مضمون هذا المفهوم "القطاع العام المشترك".
ربما كان الكاتب، في هذا القول، منطقيّاً مع نفسه، فهو يؤكّد ضرورة التكامل الاقتصادي العربي كشرط أساسي من شروط استراتيجية "التنمية"، ويحدّد العالم العربي "محيطاً للتنمية"، فينتقل، بالتالي، "بالقطاع العام" من "محيطه" الإقليمي إلى "محيطه" المشترك، بمعنى أن هذه المفاهيم كلّها مترابطة متلازمة. لكن المشكلة، برغم هذا، تبقى قائمة: كيف يؤدّي "القطاع العام المشترك" إلى قطع هذه العلاقة؟ ولا يكفي القول بضرورة أن يكون هذا "القطاع العام المشترك" ممثّلاً لمصالح أوسع الفئات الاجتماعية العربية... حتى يلعب دور القاطع لتلك العلاقة بدلاً من تجديدها. ولا يكفي القول أن تنفيذ تلك الاستراتيجية للتنمية "يحتاج إلى قرار سياسي أكثر منه إلى قرار اقتصادي أو فني..." (كما يرد على لسان الكاتب ص 77) حتى يتبدّد الغموض المفهومي وتجد المشكلة حلّاً لها. لم يرَ الكاتب - برأينا- التناقض الذي يقع فيه حين يؤكّد، من جهة، أن "القطاع العام"، كما أنشىء في بعض الدول العربية، لم يؤد إلى قطع علاقة التبعية، بل بالعكس، أدّى إلى تجديدها، وحين يميل، من جهة أخرى، إلى التأكيد أن "القطاع العام المشترك" قادر على النجاح حيث فشل "القطاع العام الاقليمي" في قطع علاقة التبعية، كأن الأمر كله متوقفٌ على مدى وجود تكامل اقتصادي عربي أو عدم وجوده، وكأن من المستحيل وجود مثل هذا التكامل الاقتصادي العربي في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي، بالضرورة، في ظل علاقة التبعية البنيوية للامبريالية. وبتعبير آخر، يكاد الكاتب يميل في تفكيره إلى القول أن مجرد وجود مثل هذا التكامل الاقتصادي العربي الذي يستلزم وجوده وجود "قطاع عام مشترك" هو كفيل بقطع علاقة التبعية تلك، بغض النظر عن طبيعة بنية علاقات الإنتاج التي يقوم عليها ويتحرّك فيها، سواء أكانت رأسمالية أو اشتراكية.
هنا بالذات تكمن المشكلة، أي في الفهم الضمني لعلاقة التبعية الذي ينطلق منه الكاتب - دون أن يفكره أو يموضعه - في رسم الخطوط العريضة لاستراتيجية "التنمية" التي يقترح. والفهم الضمني هذا -برأينا- غير علمي، لأنه فهم "اقتصادي" ينسى أن الاقتصادي هو عند ماركس علاقات الانتاج بالذات، فيجهل بالتالي، أن التبعية الفعلية تكمن في بنية هذه العلاقات من الإنتاج الكولونيالي، وأن فكّ التبعية هذه، أو قطعها أو كسرها، هو بالضرورة تحويل لهذه العلاقات التي بتأبّدها تتأبّد علاقة التبعية نفسها.
نأخذ على الكاتب استخدامه مفهوم "القطاع العام" الذي يفتقد مفهوم قطاع الدولة. ومعلوم عند الماركسيين أن ملكية الدولة هي في النظام الرأسمالي شكلٌ معينٌ من أشكال الملكية الخاصة، وليست نقيضاً لها. فحتى يلعب قطاع الدولة دوره في تغيير علاقات الإنتاج القائمة ويؤدي، بالتالي، إلى كسر علاقة التبعية، لا بد من أن تتحدّد بوضوح هوية سلطة الدولة وأن تكون السلطة هذه سلطة التحالف الطبقي الوطني بقيادة الطبقة العاملة. وفي إطار سلطة الدولة البرجوازية يتحدّد "القطاع العام المشترك" بالضرورة كشكل من أشكال الملكية الخاصة للدولة البرجوازية. وبالإمكان القول أنه يستحيل عليه أن يلعب الدور الذي يريد له الكاتب أن يلعبه في إطار استراتيجية تنميته.
نقول هذا لنؤكّد ضرورة النقد النظري للمفاهيم الاقتصادية التي نعتمد في البحث، قبل اعتمادها، وفيما نحن نعتمدها. فإذا نحن لم نخضع هذه المفاهيم لمثل هذه العملية الضرورية من النقد النظري - الذي هو، في نهاية التحليل نقد سياسي للاقتصاد الذي هو أيضاً سياسي - فإنها، في استخدامنا غير النقدي هذا لها، تنزلق بنا، من غير أن نشعر، إلى مواقع أيديولوجية وسياسية هي المواقع البرجوازية نفسها التي ضدّها نصارع.
ليس في هذا القول منّا انتقاض لدراسة كمال حمدان، بل نقد يؤكّد قيمتها العلمية ويحثّها على نقد ما تعتمده من مفاهيم اقتصادية لا تخضعها للنقد. والمفاهيم هذه كثيرة، منها ما ذكرنا، ومنها ما لم نذكر. فعسى الكاتب يعود إلى نقد مفاهيمه، فبالنقد وحده تنشحذ المفاهيم كأدوات معرفية. والنقد هذا سلاح السياسة في النظرية.
 
# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 358
`


سعد مراد