الصينية والعربية: تجديد الشكل والقلب

عندما جئت إلى لبنان لدراسة العربية ببرنامج تبادل قبل سنة ونصف، صدمت بأن لا أحدَ هنا، يتكلم، في الحياة اليومية، العربية الفصحى التي كنت قد قضيت سنتين لأتعلمها بكل جدّ في الصين. وصدمت أكثر حين وجدت أن اللبنانيين، كثيرًا ما يشعرون بالحيرة والخجل عندما يحاولون تكلم الفصحى، فالأمر مختلف تمامًا في الصين، حيث يتكلم معظم الناس الصينية الفصحى والعامية، وندرس كل المواد تقريبًا، بالصينية الفصحى إن كان ذلك في المدرسة أو الجامعة (ما عدا تخصص اللغات الأجنبية طبعًا). فلم هذا المصير المختلف لكل من العربية والصينية الفصحى؟

من لغة خاصة بالمثقفين إلى لغة تنوّر الجميع

تعرضت كلٌ من الصين والدول العربية، لضغوط استعمارية وإمبريالية جبارة خلال القرون الماضية. عندها رأى المثقفون والأدباء وغيرهم من نخبة المجتمع، أنه لا بد أن تتجدّد اللغة والأدب لإنقاذ المواطنين من ظلام الجهل من جهة، ولمواكبة الأفكار والقيم الجديدة من جهة أخرى، في ظل أول عولمة شاملة النطاق في التاريخ الإنساني، فضلا عن تقوية عضد الأمة ثقافيًا وفكريًا لمواجهة العدوان بشكل أفضل. لذا بدأ التحديث اللغوي من أصحاب البصيرة هؤلاء.
واختمرت الأفكار عن التحديث الوطني داخل الصين منذ أواخر القرن ١٩، فبدأ "إصلاح مائة يوم" عام ١٨٩٨ وهو حركة بادر إليها الملك قوانغشيو (١٨٧١-١٩٠٨) عملاً بنصيحة المفكر والسياسي كانغ يووي (١٨٥٨-١٩٢٧) لتحقيق الإصلاح السياسي والتعليمي والثقافي والعلمي وتعزيز التجارة والزراعة والصناعة الصينية.
وعلى الرغم من أن هذه الحركة فشلت بسرعة، بسبب مقاومة قوى السلطة الملكية المحافظة، إلا أنها أسهمت في انتشار أفكار التجديد في السياسة والثقافة والأدب. هكذا، بدأت الثورة الروائية والشعرية والمسرحية التي عملت على تنوير الناس، وتسهيل التحول الاجتماعي لإنقاذ الوطن المضطرب. فأصبحت الأعمال الأدبية الصينية أبسط لغويًا بشكل عام، وازدادت الأعمال الأجنبية المترجَمة زيادة بارزة، لإيصال أحدث الأفكار إلى أوسع عدد من الناس.
ثم تفجرت عام ١٩١٩ "حركة الخامس من أيار" التي هدفت إلى تحقيق الديمقراطية، وانتشار العلوم، وتحرير العقول على أرض الصين. وكان الطلاب هم المبادرون لهذه الحركة التي سرعان ما اشتركت فيها مختلف الفئات الاجتماعية، لتصبح حركة شعبية شاملة، في حين أن حركة "إصلاح مائة يوم" اقتصرت على النخبة الاجتماعية.
هكذا، أحدثت "حركة الخامس من أيار" تغيرات فكرية ولغوية أشدّ وأعمق، وأهمّها الدعوة إلى اعتماد الصينية المبسّطة في الحياة اليومية وفي الأدب والتعليم.
في تلك السنة، صدرت أكثر من ٤٠٠ مجلة بالصينية المجدَّدة وتم اعتمادها لغة رسمية في السنة التالية، وذلك من أجل تقريب الناس العاديين من الأدب والعلم، للتأثير فيهم والتأثر بهم بصورة أوسع.
في السنوات التي تلت تأسيس الصين الجديدة العام ١٩٤٩، شهدت اللغة الصينية تغيرات بارزة، كان الهدف منها تعميم التعليم ومحو الأمية من أجل بناء الجمهورية الجديدة. هكذا، تمت الموافقة على «خطة تبسيط أشكال اللغة الصينية» عام ١٩٥٦ في مجلس الدولة، واعتماد تلك "الصينية المبسّطة" في الكتب والصحف والمجلات والأوراق الحكومية، كما بدأت المدارس والجامعات في تعليمها.
وفي السنة نفسها، أصدر مجلس الدولة بيان «توجيه لتعميم اللغة الصينية الفصحى» على البلاد بأكملها، باعتبارها لغة رسمية معتمدة على لهجة بكين بشكل عام ومستوعبة للهجات المختلفة إلى حد ما. ثم تمت الموافقة في عام ١٩٥٨، على «خطة تطبيق بين يين على اللغة الصينية» في مجلس النوّاب، و"بين يين" تعني استخدام الحروف اللاتينية، لتوضيح طريقة نطق الكلمات الصينية، ما سهّل دراسة اللغة الصينية على الصينيين والأجانب في آن واحد، وطرق باب العلوم وشقّ طريقًا للانفتاح إلى درجة ما.
فقد تشكّلت اللغة الصينية الفصحى الحديثة بشكل عام في ذلك الوقت من حيث التعابير والكلمات والقواعد والنطق والشكل، فأصبحت المقاطع (أي الكلمات) الصينية أبسط شكلاً، واللغة الصينية المكتوبة أقرب إلى اللغة الصينية اليومية التي تختلف عن الصينية الكلاسيكية اختلافًا عظيمًا، أما الصينية الشفوية الفصحى فتم توحيد نطقها وتعبيرها بناءً على لهجة شمال الصين وبمساعدة الأحرف اللاتينية.
واليوم، يتكلم معظم الشباب الصينيين الصينية الفصحى بطلاقة، بفضل سياسات تعميم الفصحى من ناحية، وبحكم حاجتنا للتواصل والتفاعل مع أبناء مختلف المناطق من ناحية أخرى، فالصينية الفصحى تربط الصينيين لغويًا وثقافيًا وفكريًا، وتكوّن الهوية الصينية الحديثة.

وحين نستعرض مسيرة تشكيل الصينية الفصحى وانتشارها في التاريخ الحديث، يمكننا أن نرى أنّ هذه العملية بدأها الأدباء والمثقفون الذين عملوا على إدخال المواد اللغوية والفكرية الجديدة إلى الصينية، وذلك من خلال حركة الترجمة والنقل. ولقد بذل هؤلاء جهودًا حثيثةً لإعادة تشكيل الصينية مستلهمين النصوص الكلاسيكية من جهة واللغة اليومية من جهة أخرى. ثم تطورت الصينية مع تطور الحركات الشعبية الساعية للعلوم والحرية، وانتشرت الفصحى بفضل سياسات ومبادرات الحكومة المركزية، حيث تفاعلت وتكاملت العوامل الأدبية والفكرية والسياسية لفتح آفاق جديدة للغة الصينية حتى تصبح أداة فعالة لجمع القوة والحكمة في الصين وانتشار الثقافة الصينية في العالم.

من الحيرة والإهمال إلى مخرج جديد
أما اللغة العربية فلقد واجهت تحديات أقسى في العصر الحديث، بسبب أنّ القوى الاستعمارية فرضت ضغوطًا أشدّ على العرب لاستبدال العربية الفصحى باللغات الأوروبية واللهجات العربية المختلفة، وذلك لإبعاد العرب عن بعضهم البعض لغويًا وثقافيًا وفكريًا ثم إضعافهم سياسيًا وعسكريًا. إلى ذلك، كسبت اللغات الأوروبية، وخاصة الإنكليزية والفرنسية، انتشارًا أكبر في البلاد العربية، كونها أسهل بالنسبة إلى العرب بالمقارنة مع أبناء الصين. فالعربية أقرب نسبيًا إلى اللغات الأوروبية، من حيث المصطلحات والصوتيات والقواعد.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية، تم تقسيم الشرق الأوسط جغرافيًا من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية، وتشكلت حدود الدول الحديثة التي نعرفها اليوم. من ثم اتخذت كل دولة عربية لنفسها طريقًا مختلفًا، حيث ما زالت التدخلات الخارجية والنزاعات الداخلية شديدة وخطيرة، في ظل خلافات إيديولوجية وسياسية خيمت علي الجميع خلال الحرب الباردة وبعدها. هكذا، أصبح توحيد الدول العربية أمرًا صعبًا للغاية، وتضرّرت العربية الفصحى التي تمثّل هوية عربية جامعة، كونها حاملة لتاريخ وثقافة مشتركة بمعنى ما.
ونظرًا إلى عدم الاستقرار في العالم العربي،لم تتقدم قضايا التعليم في الدول العربية خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي يضع حواجز أمام تعميم العربية الفصحى.
وفي الوقت نفسه، اعتاد أبناء العرب استخدام العامية بلهجات مختلفة، وأصبحوا يميلون لاستخدام اللغة الإنكليزية أو الفرنسية في كثير من الأحوال، وصار من يستخدمون العربية الفصحى قلة إن كان ذلك في التعليم والبحث أو الأدب أو للتعبير عن أفكارهم وعواطفهم على وجه العموم. هكذا وقعت الفصحى في فخ التخلف عن اللحاق بالمواد اللغوية والثقافية والفكرية والعلمية الجديدة، حتى أصبح من الشائع الاعتقاد أنها ليست لغة العلم والحضارة، ما جعل أبناؤها يبتعدون عنها أكثر فأكثر، مما يشكّل حلقة مفرَّغة متكوّنِة من عدم الاستخدام وعدم الثقة لا تكسَّر إلا بالعزم والبصيرة.
ولتجديد العربية، من اللازم أن نفحص العوامل الأدبية والفكرية والسياسية التي تدفع التطور اللغوي والثقافي كما تثبته مسيرة الصينية الفصحى الحديثة.
فالعالم العربي لا يفتقر إلى الأدباء المتفوقين في العصر الحديث، وهناك الكثيرون ممن يحاولون تنشيط إمكانيات العربية، ونشر الأفكار المفيدة والفلسفات العميقة من خلال كتاباتهم التي تختزن ما لا يعدّ ولا يحصى من الكنوز اللغوية والفكرية، ممهدين الطريق لانتشار الفصحى.
ويتبنى كثير من هؤلاء أساليب بسيطة لغويًا، لأنهم يكتبون من أجل الشعب وليس للطبقة النخبوية فحسب، من هؤلاء طه حسين وغسان كنفاني ومحمود درويش ونوال السعداوي وحنا مينه إلخ. إلا أن كثيرين من أخواننا العرب لم ينموا عادة قراءة الأعمال الأدبية العربية، وذلك بسبب غياب التعليم المشجّع على ذلك، فمن الضروري إعداد مواد تعليمية ممتعة ومثيرة للاهتمام، وتنشئة معلّمين وأساتذة قادرين على التحدث بالفصحى بشكل سليم وسهل وعلى إثارة رغبة الطلاب في دراسة الأدب العربي الحديث، لكي يشارك هؤلاء في إغناء العربية بأفكارهم ومشاعرهم.
بالطبع ذلك لا يعني رفض اللهجات أو اللغات الأجنبية التي تستطيع رفد العربية الفصحى بالمواد الجديدة عبر النقل والترجمة كما حدث للصينية، وإلا ستقع العربية في خطر الانعزال عن الحلقات الثقافية والفكرية العالمية وهذا من أخطر الفخاخ الحضارية.
ولكنّ كل هذا لا يمكن أن يحدث إلا بمساعدة السياسات والتوجيهات الواضحة من الحكومات أو الهيئات الموثوقة، ولا ينجح ذلك على المدى البعيد إلا بزيادة التواصل والتبادل بين الدول العربية حكومات وشعوب، حتى يفهم الناس أن الفصحى ضرورية لتيسير التفاهم والتفاعل فيما بينهم.
فاللغات هي أدوات تواصل وتفاهم في نهاية المطاف، ويتكلم الصينيون الصينية الفصحى لأننا لا نستطيع فهم بعضنا بعضًا بشكل جيد إذا تكلمنا العامية فقط، ولدينا أكثر من ٨٠ لهجة مختلفة عن بعضها اختلافا كبيرًا. أما بين الدول العربية حاليًا فهذا النوع من التبادل والتواصل ليس قويًا مثلما يحدث في الصين. لذا، فإن مصير العربية يعتمد على كيف تتواصل الدول العربية بعضها مع بعض من جهة، وكيف تنفتح على العالم الخارجي من جهة أخرى.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 360
`


(لين جيانجيا (هادي