العنوان هو ايران، لكن جوهر الموضوع ولبه كان ولا يزال الخطة المشؤومة المسماة صفقة القرن. الإدارة الاميركية الحالية تريد في الوقت المتبقي من ولايتها، إنجازاً سياسيّاً يكفل لـ "إسرائيل" ضمانة واعتراف كامل محيطها بأنها جزء من نسيج المنطقة والأقوى فيه والأكثر نفوذاً وتأثيراً سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً. وهكذا ليس صدفة أن تجتمع قرارات ترامب المتعلقة ب"اسرائيلية" القدس والجولان ، مع عملية تشجيع عرب أميركا على التطبيع والتعاون مع الكيان الصهيوني بذريعة أولوية الخطر الايراني، مع استخدام سيف العقوبات الاقتصادية للتهويل ضد كل من لايزال يتمسك بالمقاومة والكفاح المسلح لتحرير الأراضي المحتلة ولو كانت هذه المقاومة لفظية وليست فعلية. وفي مقابل هذا السخاء الاميركي تجاه "الدولة العبرية" ورئيس وزراء كيانها الذي يتطلع إلى ولاية انتخابية جديدة ، يتطلع ترامب إلى دعم من اللوبي الصهيوني وأنصاره الإنجيليين المتصهينيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
المهمة الأميركية الجديدة ليست سهلة، ذلك أنها لم تعُد وحدها اللاعب الوحيد في الشرق الاوسط، وحتى عندما كانت تمتلك كل أوراق اللعبة في هذه المنطقة، كانت أعجز عن فرض مشيئتها الكاملة. اليوم العالم بدأ يتغير. أميركا لم تعد تلعب وحدها. ثمة ضيوف ولاعبين جدد مهرة، يجمعهم رفض الهيمنة الاميركة، ولا تعوزهم لا الإرادة ولا التصميم. أدناه نذكر أبرز الوافدين الجدد.
أوّلاً، روسيا التي تستعيد بعض مما خسرته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتي باتت لاعباً قويّاً في المسألة السورية يُحسن إدارة المعركة والتنسيق بين المختلفين.
ثانياً، تركيا التي تعمل على خلع الرداء الأطلسي واستعادة "الطربوش" الشرقي.
ثالثاً، الصين التي تشق مجدّداً طريق الحرير إلى أوروبا ، وهذا ليس ممكناً من دون محطّات توقف في شرق البحر المتوسط.
رابعاً، والأشد خطورة إيران التي نجحت في حجز مقعد أساسي لها في الصراع العربي-"الاسرائيلي" عبر وصولها عن طريق حلفائها المدججين بالسلاح والصواريخ إلى حدود فلسطين المحتلة في جنوب لبنان، وجنوب سوريا، وقطاع غزة، ومضيق باب المندب.
لذلك ليس صدفة أيضاً، أن تترافق الضغوط المالية الاقتصادية الأميركية على كل من الدول الأربعة، وأن تتعطّل مشاريع التسويات السلمية التي كانت جارية في أزمات المنطقة، لاسيّما في سوريا واليمن لحرمان خصومها من الانتصارات السياسية وتعزيز أوراق قوّتهم، وأن تفرض واشنطن على حلفائها الخليجيين وبعض العرب التجمع في مشاريع أحلاف سياسية وعسكرية مع "إسرائيل" على غرار تجمع وارسو ومشروع الناتو العربي، على أمل فتح حروب بالوكالة عنها على الأراضي العربية مع خصومها، ولاسيّما مع ايران بدلاً من أن تأخذ على عاتقها التكفل بمثل هذه المواجهة المكلفة الثمن، علماً أن ليس من مصلحتها كسر ايران حتى لا ينكسر التوازن في المنطقة وتظل الخلافات هي المسيطرة، كذلك بيع السلاح الخردة بمليارات النفط والثروة العربية.
وفي هذا السياق، فإن المحطة اللبنانية في جولة بومبيو وقبل ذلك زيارة مساعده ديفيد ساترفيلد لا تنفصل عن المشروع العام الأميركي-"الاسرائيلي"، فهو أوّلاً طالب اللبنانيين بشكل واضح بما هم أعجز عن القيام به، أي اتخاذ موقفٍ "شجاع" من "حزب الله" وتحديد خيارهم الاستراتيجي في المنطقة. بمعنى آخر، طلب من قسم من اللبنانيين الانجرار إلى مواجهة أهلية. كما كان واضحاً بمحاولة التفريق بين الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي من جهة والمقاومة من جهة أخرى، والربط بين المساعدة الأميركية للجيش والامتناع عن الحصول على أي مساعدات عسكرية روسية أو ايرانية، وحض الدولة اللبنانية على التنازل لـ "إسرائيل" عن جزء من حدودها البحرية حيث الصراع على الغاز المكتشف في البحر. وتأتي أخيراً محاولة لم صفوف أنصار اميركا ودول الخليج من اللبنانيين في جبهة سياسية واحدة، بمعنى إعادة إحياء تحالف 14 آذار وتعزيزه، كما شجع اللبنانيين على الاستمرار في احتضان اللاجئين السوريين!
وكان بومبيو أكثر صراحة من موظفيه، فقد قال أمام وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، وكذلك لرئيس المجلس النيابي، نبيه بري، ومن قلب بيروت "حزب الله منظمة إرهابية، تهدد أمن المنطقة، واستقرارها، ويجب أن يتحلّى الشعب اللبناني بالشجاعة الكاملة لمواجهته".
وترافق كل ذلك تحت التهديد بالمزيد العقوبات المالية المضافة إلى سوء الإدارة الداخلية وتفاقم الفساد والذين أوصلوا البلد إلى حافة الهاوية السحيقة فعلاً لا قولاً.
وفي المقابل كان واضحاً أن الموقف اللبناني مع الزائر الأميركي كان يحاول أن يزيّن الأمور، ويقف في المنتصف، وقد ظهر كما لو أن المسؤولين اللبنانيين الرسميين وزّعوا الأدوار وتبادلوها فيما بينهم، للتخفيف من حجم الضغط الأميركي واستيعابه من ناحية، ولإرضاء حزب الله، ومن خلفه إيران من ناحية، لأنه لا قدرة للبنان على تحمّل أي من الضغطين. وهنا بدا كما لو أن الانقسام على الموقف السياسي اللبناني شكّل، بحد ذاته، فرصة للهروب من ضغط الأطراف المتواجهة.
طبعا لايمكن التقليل من حجم الهجمة الأميركية-"الاسرائيلية" خصوصاً في ظروف المعمة الانتخابية الاسرائلية والتي ستليها الاستعدادات للمعركة الانتخابية الأميركية، والتي قد تؤشر إلى المزيد من التصعيد والتوتر. وإذا كانت أميركا و"إسرائيل" غير قادرتين على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ومنع التحولات الجارية على صعيد العالم والاقليم، والتي تشير إلى بزوغ فجر عالم متعدد القطب ونظام إقليمي جديد خارج العباءة الاميركية. لكن هذا الثنائي البشع لايزال قادراً على بث الفوضى بفعل إمكاناته المادية الكبرى، مع التذكير بأن واشنطن كانت من أوائل المنظرين للفوضى الشاملة في منطقتنا. وإذا كانت الضغوط الأميركية عاجزة عن تغيير الخرائط الميدانية في سوريا، لكنها لاتزال قادرة على عرقلة التسوية السياسية ومنع هذا البلد من استعادة كامل وحدته وسيادته، وإذا كانت أعجز عن جر لبنان إلى آتون الصراع الأهلي مجدّداً، فإنها قادرة على إنهاك البلد اقتصاديّاً وماليّاً ، لذا فإن المعركة الفعلية مع أميركا وحليفتها "إسرائيل" لا تكون فقط في صدّ عدوانها عسكريّاً وإحباط مخططاتها السياسية، بل في العمل الجدّي على تحصين الساحات الداخلية من الأمراض الطائفية القاتلة بكل تداعياتها السلبية من محصصات وفساد ونهب مُنظّم وجعل مهمة قيام الدولة المدنية الوطنية فوق كلّ اعتبار.