النظام المأزوم والتراجع الأمريكي
في ظل التوازن الدولي المتشكل في السبعينات والثمانينات وصولاً لبداية التسعينات، أي خلال تراجع قوى التغيير في العالم، وما انعكس على الحركة الوطنية ومشروعها في لبنان، والذي شكّل انهيار الاتحاد السوفييتي ذروته، انعقد مؤتمر الطائف لكي يثبت أنّ التوازن العالمي-الداخلي المتشكّل كان إطاراً للحفاظ على صيغة النظام التبعي بشكله السياسي الطائفي. وكان هذا الاتفاق، بما عناه من "تشاركية طائفية" في النظام، تعميقاً لأزمة النظام الطائفي نفسه.
وحدّد مهدي عامل أزمة النظام الطائفي في أنه إمّا أن يكون فيه طرف مهيمن، أو سيتفكك في حال فقدت هذه الهيمنة. وهذا ما حصل فعليّاً في سياق الحرب الأهلية، وثُبّت في اتفاق الطائف من خلال انكسار هيمنة المارونية السياسية كصورة لرأس المال المالي، مع توسّع للسياسات الليبرالية وتعمّقها. وطوال عقود ما بعد الطائف، لم يكن هذا النظام إلا في حالة تعطّل (صيغة اتفاق الدوحة وأزمات الانتخابات النيابية والتشكيلات الحكومية كأمثلة).
وحالة التعطل هذه انفجرت مع انفجار الأزمة الرأسمالية في العالم (في المركز والأطراف)، فمن خلال تعطّل التوازن الدولي، الذي اعتاد لجم أزمة النظام السياسي المتفكك في السابق، اشتد التفكك وما عاد يلتئم طالما هناك إبقاء على نفس الصيغة الطائفية للنظام السياسي.
جوهر اختلال التوازن هو أزمة النموذج الرأسمالي
اختلال التوازن الدولي وتراجع الولايات المتحدة لا يعني أن قوّة جديدة يمكن لها أن تحلَّ محل الولايات المتحدة لينتصر طرف على آخر في الداخل اللبناني، بالرغم من وجود حدود لتأثير الأمريكي حاليّاً. فالأزمة هي أزمة النظام الرأسمالي في العالم، فالنهب والفساد وتدمير الطبيعة ووصول مستويات الاستغلال المادي والمعنوي إلى حدودها التاريخية في الدول التابعة لم يعُدْ يسمح بالكلام عن استقرار للأنظمة الرأسمالية التبعية والتي لا تملك اقتصاداً منتجاً مستقلّاً ونظاماً اجتماعيّاً عادلاً. فها هي الصين وروسيا وايران والهند والدول التي تملك قواعدَ تصنيعٍ وإنتاجٍ وطنيّة قويّة وسوقاً محميّاً إلى حد ما في المرحلة الماضية، ها هي تواجه أزمةً اقتصاديةً وصعوبةً في استكمال سيرها في الطريق الرأسمالي. بخلاصة، النموذج الرأسمالي، عالميّاً، صار أمام استحقاقِ تجاوزِه.
هذا الواقع المأزوم يطرح التغيير على أي خيار سياسي واعٍ وعقلانيّ (كالقوى السياسية بمختلف أطرافها)، وليس بالضرورة أن يكون خياراً تغييريّاً جذريّاً، حيث أن لا بقاء للدولة ولا لصيغة مجتمع قادر على إعادة إنتاج نفسه، من دون تغيير في طبيعة النظام السياسي من جهة. ومن جهة أخرى، من دون تغيير في نظامه الاقتصادي التبعي الذي يلتقي اليوم مع أزمة من هو تابع له. فالنظام لم يكن له أن يستمر دون منطق الاقتراض الجديد، في ظل الفساد المرتفع. وهنا إضافة، أنه لا مجال إلا لسياسة حكم شعبية لمحاربة قوى النهب والفساد التي تحولت إلى رأسمالٍ ريعيّ جديد وأصبحت جزءاً من بنية النظام التبعي ومكوّناً أساسيّاً فيه.
كلّ ذلك يضربُ أوهامَ من يراهن على دعم الأمريكي له، لضعف الأمريكي أوّلاً، ولأزمةٍ بنيويّة تتجاوز أيّ إمكانية للدعم. كما يضرب أوهام الحفاظ على النموذج اللبناني لتعفّنه الداخلي، عند أي طرف سياسي آخر.
ضرورة البديل
على الرغم من المسرحية التي قدِم الأمريكي لأدائها، إن مواجهة الأمريكي المتراجع وسياساته يجب أن تلتقيَ مع السياق العالمي في التقارب واستجلاب الدعم والتكامل مع دول الشرق الصاعدة، ومع السياق المحلي، تحديداً بعد فشل خيارات الأمريكي في سوريا، التي هي أيضاً قادمة ومنفتحة على خيارات تغييرية ضرورية، وداخليّاً من خلال استكمال الطرح البديل والحشد حوله.