عن جيل في الزنزانة – قضية الديمقراطية في مصر

القضية بقدر ما هي قضية حياة أو موت علاء عبدالفتاح على المستوى الشخصي، فإنها قضية مستقبل الديمقراطية في مصر.

على خلفية تململ اجتماعي حاد تشهده مصر، أعلن علاء عبدالفتاح اضراباً شاملاً عن الطعام كتصعيد أخير يشنه من محبسه، تصعيد يضع حياته ذاتها في خطر وشيك، وقد عمَّ منصات التواصل الاجتماعي نشاطاً كثيفاً تضامناً مع أحد وجوه انتفاضة يناير 2011 التي طوحت بعنق سلطة مبارك ولجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي المنحل. ويهمنا أن نضع القضية في سياق صحيح، أن نرى الخط الأساسي ونتمسك به. فالقضية بقدر ما هي قضية حياة أو موت علاء عبدالفتاح على المستوى الشخصي، فإنها قضية المجموع الثوري الذي خرج في 2011 متحدياً بشكل واضح أو مشوش سلطة كل أو قطاع رئيسي من البرجوازية المصرية. لقد شهدت مصر منذ استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة في 2012، شهدت ميلاً لخنق المجال الديمقراطي الذي انفتح بإسقاط سلطة مبارك والذي تلاه مد جماهيري عاتي. لقد كان هم كل سلطة حلت على البلد بعد انتفاضة يناير هو إعادة تأميم السياسة وحصر مجال الفعل الجماهيري بحيث تخرج الجماهير من حلبة الصراع مرة أخرى بما أن وجود تلك الجماهير يخل بكل توازن للقوى حتى و إن لم يكن حكم البرجوازية نفسه مهدداً كنتيجة لغياب طليعة ثورية ووعي جماهيري بالاتجاه الرئيسي للمجهود الثوري، فإن دخول الجماهير على الخط يهدد كل التوازنات البينية التي تقوم صراحة أو ضمناً بين قطاعات البرجوازية المصرية، هذا ما حدث سواء في 2011 أو 2013.
لا يجب النظر لقضية علاء عبدالفتاح من منظور فردي، بل يجب تناول قضيته باعتبارها قضية مستقبل الديمقراطية في مصر، وهذا يدفعنا للتأكيد على عدة نقاط، أولها أن الخلاف في الخط السياسي مع علاء عبدالفتاح هو خلاف مبدئي، وهو خلاف لا يسقط بتقادم الزمن الثوري واشتداد المحنة، لم نخدع أنفسنا، ففي التحرير كانت هناك كتلة مزركشة تنتمي لقطاعات طبقية مختلفة تحمل مفاهيماً تصل حد التناقض، تلك هي يناير وهؤلاء هم حمَلَة مشاعلها، ولهذا لم تستمر الانتفاضة ولم تتبلور. ثانياً، أن قضية مستقبل الديمقراطية في مصر هي قضية مصرية تماماً، بمعنى أنه علينا أن ندرك أن تدخل السفارات، ومحاولة الإفراج عن علاء بجهود أجنبية وباستخدام جواز سفره البريطاني هو إهدار حتى لكل الجهد الذي بذله علاء طيلة الأعوام الماضية وصولاً للحظة التي قرر فيها أن يغامر بآخر ما تبقى له : حياته ذاتها! إن الديمقراطية هي قضية الجماهير الشعبية المصرية، الجماهير التي لن يخدم قضيتها الإفراج عن علاء بضغوط أجنبية بينما الآلاف يرزحون تحت القيد، وإننا هنا ندرك تماماً أنه لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، إن الديمقراطية هي قضية مدنية تماماً وهي لا تشمل من حرضوا على عنف طائفي أو انتسبوا لتيارات جهادية أو أحزاب دينية، إننا لا يجب أن نسقط في فخ أو وهم ما يدفعنا لإسقاط حقيقة أن هناك تناقضاً رئيسياً مع اليمين الديني ولا يخامرنا أي شك في ذلك.
إن حياة علاء مهمة، لأن المعركة التي يخوضها الرجل باسلة حتى وإن كان يخوضها دفاعاً عن حياته الفردية وحقه في أن يرى النور، إنها مهمة لأن ما أنتجته من أصداء تتيح الفرصة لتسليط الضوء على الآلاف من المجهولين الذين لا يحظون بأي دعم، لأن علاء، والجهد الذي بذلته أسرته على مدى الأعوام، لأن ما تتمتع به قضية علاء ومأساته من أهمية يجب أن تتحول إلى قضية سياسية عامة، قضية الجيل الذي شق عصا الطاعة فقرروا تأديبه لأنه خرج من الوصاية السياسية للبرجوازية المصرية المهزومة تاريخياً والتي طرحت البلاد برمتها للبيع في المزاد الامبريالي وفرضت قمعاً سياسياً وضرباً لكل سياسة وكل نشاط سياسي في البلد وأطلقت اليمين الديني –باختلاف أدواره الوظيفية- لتهديد وتركيع البلد قرابة الأربعين عاماً منذ حررهم السادات من السجن وسلحهم ومولتهم المملكة السعودية كي يواجهوا الماركسية والناصرية أي ليجهضوا مشروع استكمال الثورة الوطنية، إن تلك البرجوازية قد قررت ترويع هذا الجيل، وما علاء ودومة سوى عِبرة للعيال الذين ما أن خطت شواربهم في وجوههم حتى خرجوا يملأون شوارع البلد صخباً واشتباكاً تعبيراً عن تناقض تاريخي لا مجال لإنكاره حتى وإن لم يتوفر لهم الوعي به فإن العفوية كانت تتحرك باتجاه الاصطدام بالسلطة الرأسمالية، لأنها السلطة ولأنهم الأغنياء الذين حلبوا خيرات البلد وصادروا فضائها السياسي و ألحقوها من جديد بالدوائر الامبريالية الرجعية العربية!
إن التضييق والملاحقات لم يعد لها منطق، أصبحت الضربات الأمنية عشوائية، لا أحد في مأمن والهدف هو سحق أي نشاط سياسي في المهد، أجواء ليست ببعيدة عن حملة صدقي في 1946، والحملات الناصرية التي عقمت السياسة في مصر، وفوضى الاعتقال السياسي الساداتي وكل ما عانته البلاد في أقبية حبيب العادلي والتطور النوعي الذي أحدثته فاشية الإخوان المسلمين الذين انتقلوا إلى تسليم قضية أمنهم إلى ميليشيا تمارس المجزرة في الشارع ثم هذا الضرب الممنهج لكل ما هو حي وناطق في مصر بعد 2014.
إن ما يؤكد وجهة نظرنا القائلة بأن الهدف من كل هذا التطهير الممنهج للسياسة في البلاد هو تحطيم فكرة الاحتجاج الاجتماعي من أساسها، أياً كانت الشعارات المرفوعة وعقاب من يمارسها، أنه ليس لعلاء عبدالفتاح ولا أحمد دومة ولا الغالبية من معتقلي الرأي في مصر أي آراء معادية لاقتصاد السوق وخريطة القوى الطبقية وعلاقات الإنتاج القائمة، بل بالعكس، قد تكون الغالبية من ذوي التوجه الليبرالي، لكن الأزمة كما قلت أنه ليس مسموحاً دخول الجماهير في المعادلة، الترويع هو الطريق المفضل لبرجوازية لم يعد لديها ما يثبت حكمها سوى القضبان لأن دورها التاريخي انتهى ولأن تكلفة بقاءها صارت تتزايد بمعدلات مرتفعة ولا يتحملها سوى كل تلك الجماهير غير المدعوة لصياغة مستقبلها. إن الرؤوس التي تطير هي ما تجعل الناس أكثر حذراً قبل الإقدام على مغامرة الخروج للشارع أو حتى الكلام الذي صار قادراً على جلب البطش لمن يمارسه بحرية لكن ما تنساه كل ديكتاتورية هو أن التناقضات الاجتماعية يمكن بالقمع تأخير انفجارها لكنه انفجار آت لا محالة، تلك عبرة التاريخ، فثلاثون عاماً من القمع قد أخروا نهاية مبارك لكنها أتت، وأعوام طوال من القمع لم يمنعوا الجماهير من الخروج على عبدالناصر في 1968 وبينهما كان السادات لا يدخر جهداً في الزج بأياً كان في سجونه ومع ذلك كانت السبعينيات هي عقد الانتفاض!
إن المطلوب هو التضامن مع علاء عبدالفتاح كواحد من آلاف معتقلي الرأي الذين لم يمارسوا عنفاً، كمواطن مصري يمكن بحماية حياته حماية كل هؤلاء القابعين في الزنازين، وتخفيف تيار الداخلين إليها وتحسين شروط وجودهم فيها، ورفض كل تدخل أجنبي في قضية صراع مع نظام مدان بالاستسلام للخارج!
إن قضية الديمقراطية في مصر يمكنها أن تكون جوهر الصراع مع البرجوازية المصرية، الديمقراطية التي تبدأ من انتزاع حق الكلام والاجتماع إلى حق التظاهر الذي ما مارسه الشعب المصري عبر تاريخه سوى وقد دفع بدمه وحريته الثمن! الديمقراطية التي يمكنها السماح بتبلور طليعة ثورية قادرة على خوض كفاح الشعب المصري من أجل تحرره الاجتماعي!
كل الديمقراطية للشعب!
كل التفاني للوطن!

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 410
`


محمد عثمان