فلنأخذ عكار مثالاً، لم يجد أبناؤها مكاناً لهم في النّظام الاقتصاديّ الرّيعيّ الّذي أرست دعائمه السّلطة الطائفيّة الفاسدة بتحالفها مع المصارف وانصياعها للسياسات الاقتصادية التي رسمها البنك الدّولي ومن خلفه أميركا. فأولاد عكار، المزارعون بأغلبهم، فقدوا دورهم في هذا النّظام الاقتصادي الرّيعي الّذي قوّض إمكانيّة بناء اقتصادٍ منتجٍ دعامته الزراعة والصناعة، فكان من الطبيعيّ أن تقع أراضي السّهل الزّراعية فريسة للمضاربات العقاريّة وتتحوّل كتل أسمنتية في نظامٍ اقتصاديٍّ حوّل الأرض لسلعة تُباع وتُشترى طمعاً في الرّبح السّريع.
تحرّك أبناء عكار مع أبناء شعبهم بهدف تحقيق مطالبهم المحقة وهي: إسقاط النظام الطائفيّ الفاسد بجميع رموزه وإقامة دولةٍ مدنيّةٍ تساوي بين مواطنيها دون تمييز بين طائفةٍ أو منطقة، تشكيل حكومة إنقاذ وطنيّة تشرف على إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة خارج القيد الطائفي، محاسبة أهل السلطة والمصارف الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة عبر اقرار قانون الإثراء غير المشروع.
وأكد المنتفضون في عكار على وطنيّة حراكهم، وأوضحوا أن القضيّة الفلسطينية قضيّة حقٍّ جامعة ورفضوا استغلال القضيّة والمقاومة للدفاع عن الفساد والطائفيّة. فكان اجتماعهم اجتماعاً لمواطنين من النسيج العكاري تركوا خلفهم انتماءاتهم الطائفيّة والحزبية واتحدوا تحت العناوين والأهداف المذكورة، يجمعهم وجع أبناء عكار المحرومة وهموم الوطن، فكانوا يداً واحدةً وقلباً واحداً، وسهروا وناضلوا وتعبوا في سبيل أن تكون عكار في قلب لبنان لا خارجه كما أرادت السّلطات الطائفية الّتي تعاقبت على لبنان منذ تأسيسه.
وبالرّغم من الصعوبات العديدة التي يواجهونها نتيجة رفضهم التّبعيّة لأحد، استمرّوا في انتفاضتهم الوطنيّة، فرفضوا التّمويل من الأحزاب والجمعيات التي عرضته كي يبقى قرارهم مستقلّاً وأهدافهم وطنيّة. وحاول المتضرّرون من انتفاضتهم إفشالهم بشتّى الوسائل ومنها: بثّ الشائعات عن تبعيّة الحراك لأحزاب معيّنة وخلق مشاكل ذات طابع طائفي أو عائلي أو بلدي وهو ما كذّبته ممارساتهم على أرض الواقع، بالإضافة إلى محاولات لتسلّق الحراك من قبل أعوان السلطة الطائفية وجمعيات المجتمع المدني المموّلة من المنظمات الدولية أو السفارات مثل الـUSAID التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، ومحاولات لشقّ الساحة إلى ساحات متناحرة تختلف أهدافها ومطالبها مما يضيع بوصلة الصراع. كما واجهتهم مشاكل داخليّة سعوا لحلّها بالتّنظيم والتّنسيق ومنها مشكلة تمويل الحاجات اللّوجستيّة، فأنشأوا صندوق تبرعات لا يكاد يسدّ حاجاتهم الأساسية.
استغلّت السلطة وأعوانها حجّة قطع الطرقات للهجوم على التحرك في عكار، فروّجوا الشائعات ووصفوا المنتفضين بقطّاع الطرق بهدف تأليب الناس عليهم، غير أنّ المنتفضين أكدوا منذ البداية، قولاً وفعلاً، أنّ قرار قطع الطرقات مرتبطٌ بصدور قرار فتح المدارس والجامعات بهدف الضغط على السلطة، فلم يقطعوا طريقاً على فقيرٍ أو مريضٍ أو آليةٍ عسكريةٍ أو حاجات أساسية (مواد غذائية، مشتقات نفطية، أدوية…)، أما بعض التجاوزات التي حصلت وتمّ ضبطها فهي نتيجة طبيعيّة لحماس الشباب الثائر في وجه السلطة الطائفية الفاسدة، واعتذروا من الأهالي عن كلّ التجاوزات التي حصلت، وأكّدوا أنّهم بذلوا ويبذلون قصارى جهدهم لتفاديها عبر التّنظيم الّذي يتبلور يوماً تلو الآخر.
كانت انتفاضة الأطراف رافعة الانتفاضة اللبنانية، وحققت مع أبناء المناطق المنتفضة انتصارات عديدة على هذه السلطة الطائفية الفاسدة أبرزها: كسر الحواجز الطائفية الّتي زرعتها السلطة وغذّتها في النّفوس فنزل الجميع معاً ليطالبوا بحقوقهم المنهوبة، كسر الحواجز المناطقيّة التّي أوجدتها هذه السلطة، فهتف ابن عكار لابن الجنوب وابن البقاع لابن طرابلس وابن جبل لبنان لابن الهرمل. وحاولوا إجبار الحكومة التي أرادت خنق الفقراء بالضرائب، على الاستقالة، وهو المطلب الأول الذي تحقق من سلسة المطالب. وكان لاستمرار المنتفضين في عكار الدور الرئيسي في إفشال محاولة السّلطة باللّعب على الوتر الطائفي بعد استقالة الحريري، وهو السيناريو المرسوم لجرّ الشارع إلى الاصطفاف الطائفيّ من جديد بحجّة أنّ الانتفاضة أرادت النّيل من "الموقع السني".
بعد سقوط الحكومة، قام المنتفضون بفتح الطرقات المقطوعة وانتقلوا إلى المرحلة التالية من الضغط الشعبي عبر إغلاق الإدارات الرسمية (ما عدا الإدارات الصحية) وخاصةً الإدارات المُخصخصة مثل "أوجيرو" و"ليبان بوست" وشركتي "ألفا" و"أم تي سي"، إضافةً إلى إغلاق المصارف (مع السماح بممارسة الأعمال حسب جدولٍ يسمح للموظفين والمتقاعدين بقبض رواتبهم). والهدف من ذلك توجيه بوصلة الصراع إلى النظام الاقتصاديّ الريعي والمصارف، وهو ما يعتبر ترجمةً لشعار "يسقط حكم المصرف" الّذي رفعه المنتفضون في عكار منذ اليوم الأول.
وحول مستقبل الانتفاضة، يواجه المنتفضون في عكار محاولات لحرف الصراع عن أهدافه عبر توجيهه إلى تحركات مطلبية مناطقية، فبدأوا حلقات حوارية يومية في خيمة الاعتصام في حلبا تهدف إلى تشارك الآراء ووجهات النظر وتوعية العكاريين إلى أنّ الحرمان الذي يطالهم على كافة المستويات الصحية والتعليمية والوظيفية والخدماتية إنما هو نتيجةٌ طبيعية لهذا النظام الطائفيّ الزبائني والنظام الاقتصادي الريعي الفاشل، وأنّ حلّ هذه المشاكل لا يكون إلا بحلّ المسببات، أي التخلّص من الطائفية السياسية وإقامة نموذج اقتصادي وطني منتج بدل الاقتصاد الريعي المرتبط بالخارج.