فمن جهة، لم يعد النظام السياسي القائم قادراً على إعادة انتاج نفسه وتأمين ديمومة عمل آلياته الدستورية والقانونية، ومن جهة ثانية لم تخرج السياسات الليبرالية الجديدة التي اتّبعتها الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف، عن مسارها الحتميّ، بتوليد آليات تزيد من الاستقطاب الطبقي، والنهب الممنهج للثروات العامة.
إنّ النتائج الاجتماعية والاقتصادية لهذه السياسات باتت معروفة من ناحية توسيع هوامش الفقر، وضرب المكتسبات الاجتماعية والصحية والتعليمية للطبقات الشعبية، في حين تزداد قوة الاحتكارات الخاصة وآليات الخصخصة. ناهيك عن ازدياد الحرمان وتضخّم أعداد المُعطّلين عن العمل.
لقد أتت الانتفاضة الشعبية كنتيجة حتمية للسياسات الاقتصادية المتّبعة، وفي الوقت عينه كخلاصة تراكم للاعتراض الشعبي منذ ما يزيد عن عشر أعوام، وإذ لم تقف عند الحدود المعيشية والإقتصادوية البحتة فإنّها أعلنت المواجهة مع النظام السياسيّ القائم ومع الطبقة الحاكمة بكامل أركانها، وهنا مكمن طبقيّتها الحقيقي.
ولم يكن البقاع اللبناني بمنأى عن تفجّر الانتفاضة، لا بل أنّ هذه المحافظة، المهمّشة تاريخيّاً، شهدت قبل الانتفاضة بأسبوعين تحرّكات شعبية عديدة أغلق الشبّانٌ والشابات على إثرها الكثير من الطرقات، مشاركين بذلك مواطنين في مختلف أنحاء البلد، إلّا أنّ لانتفاضة أهل البقاع سماتها الخاصة.
فمن جهة هي منطقة تُعدّ ضمن المناطق المحرومة إنمائيّاً وإقتصاديّاً، وهي من بين الأكثر فقراً على صعيد لبنان. وإذ أنهك الاقتصاد الريعي الإنتاج الزراعي والصناعي فيها، فقد حرم عشرات آلاف العمّال من أعمالهم. وفي الوقت التي شهدت المنطقة في فترة ما بعد الحرب نموَّ برجوزاية وسطى وفئات برجوازية صغيرة، إلاّ أنّه سرعان ما تراجعت المواقع الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئات؛ ولم تخدم تجارة التهريب عبر الحدود مع سوريا، أو إنتاج وتجارة الحشيش سوى فئة قليلة من أبناء المنطقة، في وقت ازدادت أعداد المتخرّجين الجامعيين، والنازحين. ومن ناحية أخرى، ومنذ نهاية الحرب الأهلية خضعت معظم مدن وبلدات وقرى المحافظة للقوى السياسية التقليدية، إذ تشدّدت قبضة قوى السلطة المذهبية بقاعاً، كل في منطقته.
عمّت الانتفاضة البقاع في كافة مدنه وبلداته الكبرى، فمن بلدات البقاع الغربي وراشيا وصولاً إلى الهرمل وقراها ومروراً بزحلة وقضائها، خرجَ المنتفضون صوتاً واحداً متخطّين التبعيات السياسية والمذهبية، وكانوا عصبَ الانتفاضة البقاعية، منهم جمهورٌ كبير من المعطّلين عن العمل، ومن العمّال المياومين أو أصحاب الأجور المنخفضة، وأصحاب المهن ذات الدخل المحدود، بالإضافة إلى فئات متنوعة من الموظّفين وأصحاب المهن الحرّة، كما فئات من الرأسمالية المحلية المتضرّرة من السياسات المالية الأخيرة ومن الأزمة السورية. وفي منطقة تُعدّ محافظة اجتماعيّاً وتقليدية وذات بنية أبوية ذكورية متشددة بشكلٍ عام، كانت لافتة جدّاً المشاركة الواسعة والفاعلة للنساء، كما لطلاب المدارس مثلاً في إقفال الطرقات والتظاهرات والاحتجاجات المتنقّلة، ما يدلّ على تخلخل البنى الاجتماعية والعائلية التقليدية. لقد كانت تظاهرات طلاب الجامعات والمدارس الرسمية والخاصة علامة فارقة، وهي إذ أعادت الزخم للانتفاضة الشعبية، فإنّها في عددٍ من مدن وبلدات البقاع (بعلبك في طليعتها) استمرّت إلى حدٍّ كبيرٍ بكسرِ منطق الهيمنة والقمع "الناعم" الّذي مارسه الثنائي السياسيّ الشيعي، إذ شكّلت مشاركة طلاب مدارس وجامعات خروجاً عن الخضوع لها وتحدّياً إضافيّاً أمامها.
في الوقت الذي شهدت زحلة خروج تظاهرات كبيرة عُدّت بالآلاف ورفعت مطالب إجتماعية يسارية، وسياسية مدنية. وزحلة تُعد المدينة العصّية على الأحزاب اليسارية والديمقراطية الحديثة، مثلما يصفها الكثيرون، في الوقت الذي حاول فيها حزب القوات وغيره استثمار الانتفاضة لصالح رؤيته الخاصة. كما شهدت ساحاتها، عدا عن الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية الشعبية، ندوات حوارية يومية وفعاليات ثقافية وتوعوية (وهذه حال نقاط الاعتصام كافةً) ما شكّل فضاءً عموميّاً تشاركيّاً ديمقراطي المضمون، ما ساهم بإعادة الصلة بين المناطق والسكّان باعتبارهم مواطنين أصحاب حقوق وليسوا جماعات طائفية تابعة للقوى التقليدية السائدة.
بالرغم من سياسات التهويل والقمع و"البلطجة"، وبالرغم من كلّ المخاطر الممكنة والقائمة، فقد برهنت الانتفاضة الشعبية على أن باستطاعة الشعب اللبناني بأكثريته الساحقة أن يمتلك زمام المبادرة لتغيير الواقع المفروض اقتصاديّاً وسياسيّاً، وإن لم يكن بالإمكان التيقّن من مآلات الانتفاضة، فإنّه يمكن تسجيل عدّة انتصارات لها، أوّلها أنّها أدخلت إلى الساحة السياسية لاعباً جديداً يتمثّل في القوّة الشعبية العابرة للتبعية السياسية والطائفية وللمناطق. وبذلك أضيف إلى لعبة توازن القوى قوّة جديدة ألزمت السلطة على تقديم تنازلات مرشّحة للازدياد حالما بقيت الانتفاضة مستمرة؛ وقد أدخل هذا اللاعب الجديد دينامية سياسية جديدة قادرة لاحقة على إنتاج واقع سياسيّ حديث والانتقال بالبلد إلى فضاء سياسي واقتصاديّ مغاير عن السائد ذي أفق اجتماعي ديمقراطي مدني عصري. وثاني الانتصارات، أن الانتفاضة تجاوزت الأطر التقليدية في التنظيم الهرمي الصلب، فحتّى اللحظة بقيت الانتفاضة من حيث التنظيم والتوزّع المكاني أفقيةً ممتدة وغير مركزية في وقت تنبني الدولة على التمركز، ما أربك القوى المتسلطّة وجعلها منفصلة عن الواقع المستجد، خاصةً أن كل الدعوات السلطوية لتشكيل قيادة للانتفاضة من أجل التفاوض باءت بالفشل. وثالث الانتصارات يتمثّل في أنّ الانتفاضة أعطت دفعاً للحركة النسوية حديثة الولادة، كما لتلك البيئوية، وأعادت إحياء التنظيمات النقابية والقطاعية ذات المضمون الديمقراطيّ، كما الحركة الطلابية المدرسية والجامعية. إنّ هذه الانتصارات وغيرها قادرة على ترسم مستقبلاً جديداً للبنان ينقل الجمهورية من كونها فاشلة تخدم الأثرياء إلى دولة ديمقراطية إجتماعية حديثة تخدم غالبية مواطنيها على امتداد الوطن، وفي مقدّمتهم الأشد عوزاً في الشمال والبقاع.