الوطن الملجأ، الكاره للاجئين

تضاعفت في الايام الاخيرة الحملات السياسية والاعلامية التحريضية ضد اللاجئين، السوريين منهم بشكل خاص، انسجاما مع سياسات الطبقة الحاكمة المفلسة المنصرفة الى شؤون تأبيد مصالحها بإدارة الازمة الحالية وانهائها على حساب مصلحة الاكثرية من ابناء الوطن.

ممّا لا شك فيه ان حالة اللاجئين السوريين في لبنان تشكّل معضلة انسانية، سياسية واقتصادية يجب حلّها بطريقة تتناسب مع احترام حقوق هؤلاء والابتعاد عن دسّ سموم الحقد في نفوس ابناء الطبقات الشعبيّة واستعمال موضوع اللاجئين كشمّاعة يعلقون عليها كل ازمات البلد.
لكن هذه المقالة لا تهدف الى محاربة هذا الخطاب والنهج العنصري من موقع اخلاقي مقابل، بل سنحاول فيما يلي فضح التكاذب الرسمي اللبناني بالاستناد الى الوثائق التاريخية وذلك، ابتداء من "الاباء المؤسسين" لدولة لبنان الكبير ومن اساطيرهم المؤسِسة التي لا تزال تلقى رواجا عند الطبقة الحاكمة الحالية، التي يتوقون للعودة اليها في اوقات الشدائد كالمستشهد بنص ديني لا ريب فيه.

خضعت الافكار والاساطير المؤسسة للكيان اللبناني الى كمّ وفير من النقد والتحليل والفكفكة.
قد قام بذلك مجموعة من الباحثين والأكاديميين ذو الشأن والاحترام والاعتراف بمدى صدقهم وحسّهم العلمي الدقيق.
نذكر منهم المفكر والمؤرخ فواز طرابلسي، المفكر الشهيد مهدي عامل والمؤرخ الراحل كمال الصليبي.
ولعل أبرز فكرة استند عليها الاباء المؤسسون جميعهم والتي حظيت بحصّتها من النقد كانت فكرة "الوطن الملجأ".
قد تكون الفرصة مؤاتية اليوم، مع تصاعد الخطاب العنصري ضد اللاجئين السوريين، اعادة طرح هذه الفكرة ليس لسبب آخر غير ضرورة نقدها وتعريتها لكشف مدى تآمر وكذب الطبقة الحاكمة في لبنان بالبرهان التاريخي الملموس.

صحيح ان معظم نخب ومثقفي الطبقة الحاكمة في عهد قيام دولة لبنان الكبير كانوا بأغلبيتهم يجمعون على هذه المسلمة، اي، ان لبنان التاريخي تكوّن كملجأ لأقليات مضطهدة.
هذه الاقليات او "الاسر الروحية" حسب تعبير ميشال شيحا، المتمايزة من حيث مشاربها "الخلقية والمعنوية" كان من المحتم عليها ان تتعايش في لبنان "حصن الأقليات"، فحسب هذا الاخير إن "لبنان هو بلد الاقليات الطائفية والمتشاركة". بالطبع هذه الفكرة لا يقتصر تأثيرها على شيحا وحده، بل نجدها عند شارل قرم، البطريرك الحويك او شارل مالك وسواهم من الشخصيات المؤثرة التي لعبت دور اساسي في اولى سنوات دولة لبنان الكبير ومن ثم في العهد الجمهوري.
في هذه المرحلة من البحث ينتابنا سؤال عن مصدر هذه الفكرة-الوظيفة، هل كانت فعلا نتيجة حقيقة تاريخية اراد الاباء المؤسسون تكريسها كوظيفة نبيلة لوطن ناشئ اراد لعب دور ملجأ لمضطهدي الشرق؟ وإذا كان الامر كذلك فلما الإستشراس الحالي ضد اللاجئين من الحرب السورية؟
ان التدقيق سيّد العلوم، عند البحث يتبين ان جذور هذه الفكرة تعود لأب يسوعي فلمنكي كان يشغل منصب استاذ للدراسات الشرقية في جامعة القديس يوسف في بيروت مطلع القرن الماضي، كان يعمل ايضا مستشارا عند سلطات الانتداب الفرنسي. هذا الأب ليس الا هنري لامنس الذي ذكر المعلم كمال الصليبي في كتابه "بيت بمنازل كثيرة" انه "كثيرا ما كان يؤخذ عليه إطلاق العنان للأحكام المسبقة والحدس في ابحاثه" كما واضاف الصليبي انه "كان لهذا الأب اليسوعي نظرة الى الاسلام في غاية السلبية". وقد اوجد هذه الفكرة في كتاب وضعه عام 1921 تحت عنوان "سورية: موجز تاريخي La Syrie: précis historique"، ذكر الصليبي ايضا ان نشر لامنس للكتاب تزامن وبداية انتشار الافكار القومية العربية في الشرق ما يفسّر استماتت المستشرقين لإرادة ابراز هوية منفصلة ومتمايزة عن الهوية العربية للحفاظ على مناطق نفوذ الانتداب.
فهكذا، انسجاما مع كل ما سبق اعتبر لامنس جلل لبنان الذي مدّ أيديولوجيته الى الاقطار التي ضمت اليه لاحقا "كملاذ لكل ملاحق او مضطهد او محب للحرية في البلاد".
ما الخطب إذا؟ وما هذا التناقض المريع بين اجماع على فكرة الوطن الملجأ وكره اللاجئين. هل فعلاً كان هذا الوطن ملجأ للجميع؟
سنعرض فيما بعد حادثة تاريخية اجهضت في بداياتها لكنها تبقى مرجعا مهمّاً لاستخلاص العبر وفضح التكاذب الرسمي عبر التاريخ.

"من برلين الى بيروت: اقتراح توطين الالمان اليهود في لبنان"

موقف نخب الطبقة الحاكمة لم يكن دائما رافض لفكرة انضمام لاجئين جدد إلى "الوطن الملجأ"، فحسب كتاب الباحثة لورا ايزنبرغ "عدو عدوي" مع وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933 وبداية تنفيذ سياساته العنصرية ضد اليهود، بدأت مجموعات كبيرة من يهود ألمانيا مغادرة البلاد والبحث عن بلد يستضيفهم كفرنسا أو بريطانيا. عندها بدأ حاييم وايزمن (زعيم الحركة الصهيونية) بطرح فكرة توطين اللاجئين اليهود في لبنان. عكس ما يمكن لمتابع لموجة المواقف "الوطنجية" الحالية الرافضة جملة وتفصيلا لأي نوع من أنواع التوطين، فإن الكثير من الشخصيات البارزة الموضع حولهم هالة من القدسية قد قبلوا لا بل شجعوا طرح التوطين. الرئيس إميل أده شجع توطين 100,000 لاجئ يهودي في أنحاء صور وصيدا. هذا الموقف لم يكن غريبا عن الرئيس اده المعروف بتعاطفه مع الأفكار الصهيونية وعدائه للعرب وهو القائل إن "ثقافة اليهود وثقافة لبنان أعلى من ثقافة جيرانه العرب".
بالرغم من حماسة اده البائنة إلا أنه كان دائما يحرص على العودة إلى سلطات الانتداب في مثل هذه القرارات ولم يكن من الممكن لهؤلاء القبول لأسباب سنعرضها لاحقا.
أما الأكثر تطرفا في دعمه المشروع الاستيطاني فهو المطران أغناطيوس مبارك الذي صرح أمام اللجنة الأنجلو-أمريكية عام 1947 "إن الصهيونية تأتي بالحضارة إلى فلسطين وإلى الشرق... أنا مؤيد للصهيونية من كل قلبي، لأن سلامة أرض إسرائيل غالية علي".

كما وصرح في خطبة له ألقاها عام 1937 في كنيس بيروت:
"نحن، غبطته وأنا، نريد أن نقول لكم أهلا وسهلا باليهود".

هذا النهج لم يقتصر على الكلام المجرد فأيضا حسب كتاب الباحثة ايزنبرغ فإن البطريرك عريضة قد عرض بيع أملاك بطريركية قريبة من بيروت للحركة الصهيونية من أجل توطين اليهود الألمان.
لم يتوقف الترحيب بالمشروع على رجال السياسة والدين فقط، بل نلاحظ أيضا دعم بعض المثقفين أمثال شارل قرم الشاعر المعروف ومؤسس الحركة الفينيقية ورائد النزعة القومية اللبنانية-الفينيقية الذي أبدى تحمسا للمشروع المذكور إلى حد أن وصل به الأمر إلى إعلام الوكالة اليهودية بعدد من "الڤيلات" للإيجار بأسعار زهيدة على الشاطئ اللبناني من أجل إسكان المستوطنين الجدد وعرض أن يكون هو وسيط الصفقة. أما فيما يتعلق بأسباب فشل هذا المشروع فلم تكن أسباب وطنية محلية للأسف. السبب الأساسي لفشل مسعى توطين اليهود كان موقف سلطات الانتداب الفرنسي التي كانت تنظر إلى الحركة الصهيونية بعين من الريبة معتبرة أن هؤلاء عملاء للحكومة البريطانية كما وتخوفا من ردات فعل السكان المحليين المعادين لتوطين اليهود والتزاما بسياسة الحكومة الفرنسية القائمة في حينه على الحفاظ على الوضع المستتب في لبنان.

في المحصلة يصاب الباحث والمتابع بالدهشة عند رؤية مدى تناقض المواقف الصادرة عن الطبقة عينها من لامنس الى القرم مرورا بشيحا، جميعهم أجمعوا على لبنان كوطن ملجأ وبعضهم تحمس لتوطين اليهود الغربيين أيضا فكيف لمن يفتخر بإرث هؤلاء معاملة اللاجئين السوريين بهذا الكم من الحقد الأعمى؟

نتيجة كل ما استعرضناه آنفا، نستخلص أن لبنان وطن ملجأ أحيانا ولفئات محددة من المضطهدين. كل الشخصيات المذكورة تجمعهم نظرتهم الاستشراقية والعنصرية تجاه العالم العربي الأوسع ويتميزون بعنصرية فائقة تجاه العرب لأسباب تكون موضوع بحث آخر. أرادوا هذا الوطن ملجأ لأهوائهم ومشاريعهم ومصالحهم الاقتصادية فكيف لهم أن يقبلوا لجوء من كانوا أصلا يريدون اللجوء منه؟ أي الطبقة الشعبية بأسرها على اختلاف جنسياتها، أرادوا لبنان قلعة أثرياء متفرغين لأذواقهم الرفيعة المقيتة.
أما نحن، فلا يجب فهم كلامنا كدعوة للتوطين، بل كنداء تعقل في وسط عاصفة من الكراهية والحقد لا هدف منها سوى إلهاء شعب مقهور بشعب مقهور آخر لعل القاهر ينجو بفعلته.

المراجع
• "صلات بلا وصل ميشال شيحا والأيديولوجيا اللبنانية"؛ فواز طرابلسي.
• " بيت بمنازل كثيرة الكيان اللبناني بين التصور والواقع"؛ كمال الصليبي.
• "عهود رئاسية"؛ د. كمال ديب.
• " المتاهة اللبنانية"؛ رؤوفين أرليخ.
• “My enemy’s enemy, Lebanon in the early Zionist imagination”; Laura Eisenberg.