أضاعوا الاستقلال والخطر إضاعة لبنان

يرى اللبنانيون بعين القلق تضاؤلاً مستمراً في ملامح الاستقلال عاماً بعد آخر. ولم يكن تحوّله من عيد وطني متوهّج إلى مجرد ذكرى أمراً طارئاً. فقد واجه لبنان وما زال يواجه عاملين عدائيين هما حروب العدو الصهيوني ومطامعه واعتداءاته المتكررة، والاهتزازات والانقسامات الداخلية التي أحدثت وتُحدث شقوقاً عميقة في وحدة شعبه وكيانه، وقد أدّت باللبنانيين، خصوصاً اليوم، إلى حالة قلق شديد على مصير لبنان وعلى وجودهم ومستقبل أبنائهم... فهم يرون مخاطر إبقاء لبنان ساحة مفتوحة لتفاعل الخلافات داخلياً، والوساطات والتدخلات خارجياً.

لقد أوصلت هذه الأسباب بلدنا إلى تراجع وانهيار، وأبقت استقراره هشّاً، وأظهرت بوضوح خطر العدوانية الصهيونية ومطامعها من جهة، وطبيعة نظام التحاصص الطائفي كمصدر للانقسامات والصراعات الداخلية من جهة أخرى. وبدلاً من تحقيق تغييرات تلبي حاجات لبنان وشعبه ووطنه، تمسّكت الطبقة السلطوية بالوضع القائم وأسسه الطائفية التي تستولد انقسامات عمودية في المجتمع والحياة السياسية، بغرض طمس حقيقة الصراع الاجتماعي الطبقي، ولتفريق صفوف ذوي المصلحة الواحدة والمشتركة لأكثرية الشعب الساحقة، ومنع المحاسبة، رغم أن اعتماد نهج سلطوي يحقق وحدة اللبنانيين هو ضرورة داخلية ولمواجهة الخطر الخارجي. لكن هذه الضرورة ليست أولوية، فالأساس عندهم هو استغلالهم للشعب، والحفاظ على فرص الصفقات والتحاصص، وديمومة سلطتهم... ولم يكن الحفاظ على الاستقلال وتعزيزه من هذه الأولويات. لذلك أوصلوا البلد وأوضاع الشعب الاجتماعية والعامة إلى أدنى درجات السلّم العالمي. فلم يبنوا دولة تحمي لبنان من الأخطار وتحقّق حداً مقبولاً من العدالة الاجتماعية ومن الوحدة الداخلية. وسلكوا طريق التخاذل حيال اعتداءات وحروب إسرائيل والتبعية للغرب الاستعماري الداعم لها، وخصوصاً الولايات المتحدة، مما استدعى نشوء مقاومة شعبية متعددة في مراحلها ومتباينة في طبيعة بنيتها وفي أهدافها الداخلية.

لقد جرى ضمور الاستقلال نتيجة كل ذلك، ورافقه إهدار لتضحيات جسيمة بذلها شعبنا لتحقيقه، بدءاً من عاميات وانتفاضات شعبنا ضد السيطرة العثمانية ومحاولات التتريك، وصولاً إلى شهداء 6 أيار 1916، وإلى المؤتمر الوطني عام 1943 الذي شكّل تتويجاً لمعركة الاستقلال، والذي قام فيه الحزب الشيوعي وقائده فرج الله الحلو ورفاقه بدور بارز في المؤتمر وعلى الصعيد الجماهيري في ساحات وشوارع المدن اللبنانية. وإن مقتضيات حماية الاستقلال واستعادة بريقه تتطلب اعتماد نهج يحقّق تغييراً بنيوياً يوفّر مقتضيات الوحدة الداخلية، وتلبية حاجات ومعيشة اللبنانيين وطبقاتهم الكادحة، ومنها استرداد المال المنهوب وإعادة أموال المودعين. فقوّة الدولة وسلطتها هي بوحدة شعبها، وليس بمافيات المصارف والاحتكار والفساد المستشري.

إن إبقاء بلدنا وشعبنا بين خطر العدو الخارجي وخطر الانقسامات الطائفية الداخلية يُبقي لبنان في مستنقع الضعف والانهيار والتفكك. وإن اعتماد نهج تغييري من قبل السلطة يعزّز دور الدولة وقدرتها على حماية لبنان هو السبيل لاستعادة وهج الاستقلال الذي بات ضرورة وطنية ملحّة.

إن إبقاء قانون الانتخاب كما هو اليوم وموضع مكابشة بين أطراف السلطة هو ملهاة للناس عن قضاياهم وحقوقهم، وربما يؤدّي إلى تأجيل الانتخابات. والأجدى أن تكون المكابشة من أجل تحقيق مضمون المادة 22 من الدستور المتعلقة بإلغاء الطائفية، وبتنفيذ اتفاق الطائف بانتخاب أول برلمان بعد صدوره خارج القيد الطائفي، وبقانون انتخابي على قاعدة النسبية والدائرة الكبرى، ليوفّر تمثيلاً صحيحاً للشعب، وهذا مقرّر منذ 35 سنة ولم يُنفّذ. فالإصلاح الجزئي، على إيجابيته، لا يُخرج لبنان من النفق المظلم. فمصلحة لبنان، الشعب والوطن، هي في تحقيق التغيير.