كاراكاس التي لا تُحاصر

أسأل لوكاس، ذلك الرفيق الأميركي الذي قرّر أن يعيش هنا ويكتب عن فنزويلا ويفضح الهجمة الإمبريالية: "أتشعر بالإحباط؟"
"إحباط؟ هنا؟ مستحيل! هذا شعب ينتشلك منه"، يضحك وهو يأكل الآريباز الشهية التي قرّرنا أكلها في مطعم شعبي.
لوكاس، وضمن مجموعة من الصحافيات والصحافيين الشيوعيين، يعملون اليوم في فنزويلا لنقل واقع مختلف، لصنع إعلام آخر، بروباغاندا بديلة، أي ما يرونه وماتراه الدولة كأحد أهم فضاءات الصراع الحالي.

اليوم، تتمّ شرعنة الهجمة على فينزويلا عبر بروباغاندا إعلامية متوحّشة، بتغييب إنجازات الثورة، وإظهار الدولة كنظام قامع، وتدمير صورة فنزويلا في نظرالشعوب.
لكن ما يحصل على الأرض مختلف، تماماً كما كان الوضع مختلفاً في كل الدول التي صمّمت الولايات المتحدة الأميركية على تدميرها لتطويعها. وهذا بالذات ما يفهمه أهل هذه البلاد اليوم. فهؤلاء ال"غرينغوز" يريدون القضاء على فنزويلا وما تمثّله. و"غرينغو" هو التعبير العتيق المستخدم من شعوب أميركا اللاتينية لوصف الأميركان، أو حملة راية الإمبريالية الأميركية.
"الحياة عادية في فنزويلا"، هذا ما نراه. لكنها عادية بعادية أي بلد تحت الحصار، وشعب اتضحت له سيرورة مقاومته. أنا لا أتكلّم عن البورجوازية التي قرّرت أن مصالحها تنتمي في المقلب الآخر. أتكلّم عن أهل العشوائيات في مدينة باهرة الجمال تزنّرها العشوائيات بحجر أحمر. ورثت كاراكاس عشوائياتها عن أنظمة سابقة، لكن ما جعلها مختلفة عن أكثرية عشوائيات هذا العالم، هو أن الدولة اعتبرتها مسؤوليتها: فبدلاً من خطاب يقول بضرورة القضاء على العشوائيات، طبّق هوغو تشافيز خطاباً يعتمد على تأمين أساسيات الحياة لأهل العشوائيات كي يحظوا بحياة كريمة. أقول "أساسيات الحياة"، أي في الشكل الطبيعي للحياة، لكنها في لبنان، ترف.
لم أرَ في حياتي عشوائيات كهذه، لا في منطقتنا، ولا في شمال أفريقيا ولا جنوبها، ولا في الولايات المتحدة الأميركية ولا في الهند. تفقد العشوائيات ذنبها هنا: لا يعود الفقر عيباً، ولا الحارة المتواضعة مذمّة.
هنا، أمّن تشافيز الخدمات للعشوائيات، وأمّن لها أيضاً، العلم والطبابة والعمل، وأدخل التنظيم السياسي الاجتماعي في ثقافة الناس على شكل كومونات. ففي حين تدمّر الدول الرأسمالية العشوائيات (فوق رؤوس أصحابها أحياناً) لتقول بأنها تحارب الفقر، هي لا تفعل سوى تأبيد المشكلة: يتحوّل سكّان العشوائيات إلى سكاّن لعشوائيات أفقر، بعد أن أفقدتهم الدولة ما جمعوه وبنوه خلال سنين عملهم.
هذا بالإضافة إلى أن عمل الكومونات هو ما يبقي أهل هذه العشوائيات أحياء، مؤمّناً لهم الطعام والتعليم والتنظيم السياسي الذي يسمح لهم بفهم الأزمة ومقاومتها. وحين نتكلّم عن الترف الذي لا نحلم بعيشه هنا، يحصل أهل العشوائيات من الدولة على المدارس والمستوصفات وحضانات الأطفال، كما صفوف الموسيقى والحياكة، والرسم، وقاعات الكرة الطائرة.
من جهة أخرى، في المدينة "النظامية"، بين الحدائق والمتاحف ومعارض ومراكز الفنون المجانية، مكتبات للدولة (سعر الكتاب الواحد فيها 700 بوليفار، والدولار الواحد يساوي أكثر من 3000 بوليفار) تُباع فيها أيضاً أشغالٌ يدوية من مختلف المناطق... كل هذا لعامّة الشعب. كما تؤمّن الدولة مبانٍ بطوابق متعددّة من ال"جيم"(قاعات الرياضة)، لأن الرياضة والفنون والحدائق ليست بترف، ولأن الثروة أصلاً ملك الشعب، فليس من الغريب أن تُغدق عليه.
نحن نعلم بأن النظام الحالي في فنزويلا لم يستطع بعد أن يطبّق الاشتراكية كاملةً. لكننا اليوم وبالأخص في لبنان، نعيش تحت رأسمالية متوحشة لدرجة أننا في هذه المدينة، نشعر بالاشتراكية ملموسة محسوسة فيما بيننا. هنا، الخطاب الاشتراكي هو في أساس مفهوم علاقة الدولة بالأشخاص –وليس بالمواطنين فقط-. أساسيات الحياة، حتى تحت الحصار، ليست مسؤولية الفرد وحده/ـا. فبينما الدولة عندنا تقول لنا: "قلّع شوكك بإيديك"، تؤمّن الدولة هناك سياسات وبرامج وأدوات مختلفة، كي يستطيع الفرد العيش بكرامة، وكي تستطيع المجتمعات والشعوب المختلفة في فنزويلا، النجاة. لأن النجاة فعلٌ جماعي.

 

  • العدد رقم: 354
`


جنى نخال