وهناك معسكر الناصريين وهم يتعاملون مع التجربة من مواقع ذاتية تفرضها طبيعة التيار الناصري الذي تشكل أساساً على قاعدة الانتماء لجمال عبدالناصر الشخص بكل تمرحلاته التاريخية وبالتالي فأي نقد لعبدالناصر يعد بشكل ما ضرباً لمشروعية وجود ما اصطلح على تسميته بالتيار الناصري. وهناك معسكر الإخوان المسلمون، اليمين الديني ككل، وهم موضوعياً أعداء للتجربة الناصرية بحكم تجسيدهم لمصالح طبقية أُضيرت من التوجه العام لعبدالناصر، وهم ذاتياً معادين للتجربة بحكم ما لحق بتيارهم الرئيسي في ضربتي 1954 و1965. والمعسكر الرابع هو معسكر التيار الرئيسي من الجماهير الشعبية المصرية التي تحتفظ بذكرى عبدالناصر الإصلاح الزراعي والتأميم ومقاومة الأحلاف ومعاداة الاستعمار والمصانع والمجانية، وهو التيار الذي يرتبط عفوياً بالتجربة دون إدراك حقيقي لأبعادها ومواطن مقتلها.
مبدئياً لابد من الإقرار بأن صورة عبدالناصر تحرك حنيناً ما نحو زمنه، زمن المعارك الكبيرة والأحلام الكبيرة والكوارث الكبيرة التي حلت بتلك الأحلام أيضاً. هذا الحنين، الارتباط العاطفي بالرجل ذا الكاريزما عريض الأكتاف صاحب الابتسامة الآسرة والطلة التي تحجب ما عداها يجعل من يتناول المرحلة، مختزلاً إياها في شخص الرجل، إزاء أزمة حقيقية، لأن هذا التناول لن يتم إلا من زاويتي الحب أو الكُره، حسب الانتماء، ما يجعل تقديم تحليل متماسك للتجربة أمراً مستحيلاً، فالأمر سوف يتبدى و كأنه إما مدحاً لكائن كلي العظمة أو ذما في شيطانٍ رجيم، وتلك معادلة الناصريين والإخوان المسلمين على الترتيب.
إذا لا مجال لصورة عبدالناصر العاطفية، وهذا لن يتم إلا بالإجابة على سؤال دور الفرد في التاريخ. وهنا لا مفر من البدء بالسردية الناصرية، لأنها تمثل نموذجاً نموذجياً لكيفية تخريب تجربة تاريخية بثراء تجربة عبدالناصر، ولابد هنا من التأكيد على نقطة مهمة، لابد من الفصل بين جمال عبدالناصر وبين الناصريين لأنه من الإجحاف بالرجل والتجني عليه أن يُحاسب تاريخياً على سفسطات تيار تشكل وتبلور بعد موته في إطار دفاع محموم عنه في مواجهة هجمة الردة الساداتية، وهو دفاع أقرب إلى الصراخ وبشكل ما أضر بقضية عبدالناصر لأنه استهدف لا الدفاع عن التوجهات الاجتماعية للتجربة بل تنقية ثوب عبدالناصر بأي شكل حتى فيما أعلن هو مسؤوليته عنه.
إن السردية الناصرية تبدأ من ثورة يوليو باعتبار عبدالناصر خالقها، ثم تنتقل عبر مراحل التجربة لتعلن أنه الرجل الذي اشتري السلاح التشيكي وأسس حركة عدم الانحياز، و أنه الرجل الذي يعود إليه فضل دعم ثورات التحرير في الجزائر والعراق ثم اليمن وليبيا بل يمتد نطاق تأثيره نحو تمويل حملة الليندي. وهو بالطبع الرجل الذي أمم القنال وانتصر في بورسعيد وهو صاحب أول وحدة عربية وهو صاحب تأميمات 1961 ثم 1963 كما أنه صاحب المجانية في التعليم والصحة ومئات المصانع ومشروع الصواريخ ومجمع الصلب والمأثرة الخالدة في أسوان : السد العالي.
لو قلبنا تلك السردية، فإن هذا الرجل كُلى القدرة والجبروت، هو من وأد الديمقراطية، وجلب صديقه عامر لقيادة الجيش رغم ضعف إمكانياته، وبالطبع هو صاحب المجزرة الشهيرة ضد الماركسيين بدءاً من يناير 1959 حتى وفاته، وهو المسؤول عن مجزرة شباط 1963 بالعراق وسقوط أول وحدة عربية، والتداعي الاقتصادي بدءاً من 1965 وبالطبع هزيمة 1967. لا يمكن فرض إحدى السرديتين دون الأخرى، فبما أنه كان المحرك الأساسي للأحداث، فوق الصراع الطبقي وموازين القوى والوضع الدولي والترتيبات الإقليمية، فإنه لا يجوز أبداً منطقياً على الأقل تبرير بقاء عبدالحكيم عامر في قيادة الجيش كل تلك المدة بحجة أنه لم يستطع خلعه، لأن الاعتراف بهذا ينسف كلا السرديتين ويفتح الباب لتحليل تاريخي حقاً.