إذا ما افترضنا أن الرئيس التونسي لا يتمتّع بما يتوفر لأيّ دكتاتور عربي من أسباب القوة، فربما رأى أن مبدأ القوة الناعمة هو سبيله للاستبداد بتونس وبقرارها السياسي. من المرجَّح أن الرئيس التونسي يعلم علم اليقين أن كثيراً من الشعوب لا تتأثر لحملات القمع، وتستطيع تحمّل أنواعٍ كثيرة من القهر، غير أنها يمكن أن تتحرك وتعترض عند مشاهد الدّم والقتل. لذلك قرّر قيادة البلاد وفق دكتاتورية لا تعتمد القمع الجسدي أو حملات الاعتقال الواسعة ضدّ المعارضين، بقدر ما تعمد أسلوب فرض القرار المترافق مع سحب قدرة الآخرين على اتخاذ قرار.
لا يرى الرئيس التونسي سوى نفسه الرجلَ الوحيد الجيد في تونس، أما البقية، من أجهزة الحكم أو إدارات البلاد، فليسوا سوى فاسدين ومتآمرين ومأجورين للخارج، حسب اتهاماته التي يواظب على إلقائها جِزافاً ومن دون تحديد أحدٍ أو حتى تقديم دليل. وهو لذلك جمَّد عمل البرلمان وعطَّل العمل بالدستور، وألغى هيئة مراقبة دستورية القوانين لينصِّب نفسه أباً للدستور باعتماد أسلوب إصدار المراسيم الرئاسية التي تناسبه، وهي مراسيم يسعى لأن تكون بديلة عن الدستور الذي قال عنه إنه لم يعد صالحاً، ثم عاد قبل أيام، وأكد كراهيته له حين قال عبارته الغريبة التي تناقض كلّ مفاهيم الحكم: "قضاءٌ مستقل خيرٌ من ألف دستور". ولم يكن تجميد البرلمان سوى سبيله ليصبح المُشرِّع الوحيد، ولم يكن حلّ الحكومة، ثم تفصيل حكومة بكماء على مقاسه، تأتمر بأمره، سوى لتصبح السلطات التنفيذية بيده ويفرض ما يريده بعد أن يصبح مصدر كلّ السلطات.
وفي سابقةٍ، عقد الرئيس التونسي قبل شهر ما سمي مؤتمراً صحافياً، جمعه مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، ولكن من دون صحافيين؛ إذ لم توجَّه الدعوة للصحافيين أو وسائل الإعلام لحضوره وتغطيته وتوجيه الأسئلة للرئيسين. وعوضاً عن بثه على شاشات التلفزة الوطنية، بثته رئاسة الجمهورية على صفحتها على فيس بوك، وأطلقت عليه تسمية "لقاءً صحافياً". وفي حين أثار هذا "اللقاء" سخرية التونسيين واستهجانهم، فإنه لا يعد سوى إشارة من سعيِّد على مدى رفضه للصحافة والعمل الصحافي. من هنا يتبيّن مدى حرص سعيِّد على ابراز أدق التفاصيل التي تُظهر فردانيته وتُبرزه المتحكّم الوحيد بالبلاد. ألم يثابر على تذكير التونسيين منذ اعتلائه سدة الحكم سنة 2019، أنه هو الرئيس الوحيد لتونس؟ ألم يبدأ عمله رئيساً مع توجيه التحذيرات "للخونة والفاسدين" ومع التبشير بقرب الانتصار عليهم؟ إنها سياسة التكرار التي يعرف مدى فعلها على آذان أبناء الشعب وضرورتها للتعوّد عليه كما هو، رئيساً لا يتحدّث عن خطط وأساليب لتحسين معيشة الشعب، بقدر ما يهدّد الآخرين الذين يضعهم في مرتبة الخونة، مع أنه لم يقدّم أحداً منهم للمحاكمة.
ليس من اليسير أن يتحوّل سعيِّد فجأة إلى دكتاتور دموي، ودولته على بعد أميال من أوروبا التي لا يفتر ثغره عن بسمةٍ إلّا حين رؤية مبعوثيها. كما ليس من اليسير الانتقال من العمل المؤسساتي القائم على تنفيذ الخطط المبرمجة، إلى العمل وفق النظام الأمري التقريري الذي يريد فرضه في تونس. وفي السياق الطويل لفرض نفسه مقرّراً، ستجد المؤسسات نفسها عاطلة عن العمل، تنتظر الأوامر العليا لتقوم بأقلّ الواجبات الوظيفية الروتينية.
وبسبب غياب الرؤية والخطط لديه، ستصبح السلطة عاجزة وفاقدة القدرة على تنفيذ القرارات التي تتلقاها، وإذا ما نفّذتها فإنها ستكون خارجة عن أي سياق. ومن هنا حريٌّ التساؤل، هل يعمد الرئيس إلى تفريغ هذه المؤسسات وجعلها عقيمة؟ في هذا الوقت ترتَّب على إجراءات سعيِّد الاستثنائية وصول البلاد إلى مرحلة التدهور الاقتصادي وإمكانية حصول الإفلاس المالي. ربما هذا أحد تجليات رفضه تقديم رؤىً واضحة، وجوابه الشعبوي لمن طالبه بخارطة طريق أن يبحث عنها في كتاب الجغرافيا، جواب لا يدل على فقدانه أيّ خطة أو رؤية، بقدر ما يدل على تعمده عدم تقديم أي خطة، من أجل تحضير الأرضية لفراغٍ، ثم يطرح نفسه الوحيد القادر على ملئه، بعد تقزيم الآخرين واستبعادهم.
قبل أيام، وفي سياق حديث سعيِّد عن عدم صلاحية الدستور الذي جمَّد العمل به، تحدّث عن دستور آخر تحدّده إرادة الشعب فأطلق ما سمّاه الاستشارة الشعبية لإجراء إصلاحات وصياغة دستور جديد يجري الاستفتاء عليه في 25 تموز/ يوليو المقبل. كذلك حدّد فترة أواسط كانون الأول/ ديسمبر المقبل لإجراء انتخابات برلمانية، أي ستبقى البلاد سنة أخرى تعيش تحت رحمة تهويماته. أما إرادة الشعب التي يواظب في الحديث عنها، والشعب الذي يريد تخليصه من الخونة، فهو لم يتحدّث مرة عن همومه ومشكلاته وسُبل حلّها، بقدر ما فكّر في طرقٍ لاستهداف الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، والتي هي وحدها من بات يهتم بأمور الشعب.